أقدّم هنا تلخيصاً لرحلة مضيت فيها داخل نفسي, حول كيفية التعامل مع الطرف الاسرائيليّ المحتل. و أودّ أن أشرك القرّاء فيها لما قد تحمله من إفادةٍ للآخرين في موقعي نفسه.
أنا مصريّة من جيل عبد النّاصر, فكريّاً و سياسيّاً. و بعد هزيمة 1967, تحوّلت الى اليسار الرّاديكالي المصري, و شاركت في الحركة الطلّابيّة المصريّة عامي 1971 و 1972. تزوجت من فلسطينيّ, و انتقلت للعيش في مدينة البيرة/رام اللّه عام 1979. و قد جاء قرار انتقالي بناءً على طلب حَمِي, عبد الجواد صالح, مؤسّس الجبهة الوطنيّة الفلسطينيّة عام 1972 و المبعَد عن بيته ووطنه منذ عام 1973; إذ جاء لرؤيتنا, أنا و زوجي في باريس بعد انتهائنا من دراسة الماجستير, و كنّا على وشك التسجيل للدكتوراه, فعاجَلنا بطلبه: “بإمكانكما إنهاء الدكتوراه فيما بعد. زوجتي بعيدةٌ عنّي منذ ست سنوات, و من حقّها الانضمام اليّ مع طفليها الصغيرين. الكبار ممنوعون من السفر, و يحتاجون الى من يكون معهم في البيت.”
كانت العائلة في فَقدت في لبنان عام 1973 أجمل أبنائها و هو في سن العشرين. و كان حماس الأبناء الآخرين و حقدهم كبيريْن, و خاف الجميع عليهم. لذا توجّب أن يبقى معهم أحدُ لرعايتهم. تردّد زوجي, و لكنّ قراري لم يستغرق ثواني:”أنت تبقى في باريس و أنا أعود الى فلسطين.” و بين عاميْ 1980 و 1982 أنجبت ثلاثة أطفال رائعين, فعكفت على تربيتهم, الى أن بدأتُ أعمل في جامعة بيرزيت محاضرةً في العلوم السياسيّة و الدراسات الثقافيّة ابتداءً من اكتوبر 1984. و بين 1979 و 1984, رحتُ أناضل للحصول على الهوية الاسرائيليّة التي بمقتضاها تحقّ لي الاقامة و التنقّل.
***
قضيتُ خمس سنوات عصيبة من دون هوية اسرائيليّة. و كان عليّ أن أغادر البيرة كل بضعة أشهر لتجديد إقامتي, و هي الفترة التي كنتُ فيها حاملاً و لدي أطفالٌ رضّع. و كان عبور الجسر الذي يربط فلسطين المحتلّة بالأردن مريراً, حتى كدتُ أفقد حياتي عند عبوره ذات مرة حاملاً بابنتي ياسمين, و أصبت أثناءها بتسمّم الحمل. مُنعتُ من الحركة لأنّ ذلك كان سيشكّل خطراً على حياتي. غير أن وضعي هذا لم يشفع في تجديد إقامتي, فاضطررتُ الى المغادرة و الانهيار بعدها لمدة شهر في أحد مستشفيات الأردن, لأعود الى عبور الجسر في سيّارة إسعاف, و لأنهار بعدها من جديد على طريق الجسر. هناك قالت المجنّدة:” وضعك صعب, سنحتفظ بأغراضك الشخصية للتفتيش, و نرسلك الى مستشفى أريحا.”
وصلتُ الى مستشفى أريحا بلا أوراق و لا مرافق, و لا أحد يعلم من أنا و لماذا جئتُ. أرسلتُ الى مستشفى المقاصد لألِدَ ابنتي و لم تبلغ بعد ستة أشهر و نصف الشهر. عندما حصلتُ على الهوية الاسرائيليّة, بعد طول عذاب, و بعد تدخّل محامٍ اسرائيليّ لقاء خمسة آلاف دولار, وَقَف حاكم رام الله العسكري بتبجّح ليقول في الاحتفال الذي نُظّم لتوزيع الموافقة على بعض طلبات جمع شمل العائلات:”…و هكذا نعطيها الهوية الاسرائيليّة من دون أخذها بجريرة أهلها المخرّبين.”
***
كان وصولي الى أرض فلسطين تحقيقاً لحلم قوميّ قديم. فها أنا ذا في أرض النضال و قلب المعركة. تقرّب إليّ العديد من أصدقاء العائلة, و لا سيّما النساء النشيطات اللّواتي بَذَلنَ جهدهنَ لكي أنضم الى تنظيماتهنّ و أُطرهنّ النسوية التي كانت في أوج عطائها في ذلك الوقت. كنتُ أوجّه كثيراً من الأسئلة إليهنّ, إذ لم ألحظ فروقاً تذكر بين طروحات الأحزاب المختلفة, فلماذا الفرقة؟ عندها, قرّرتُ ألّا ألتحق بتنظيم معيّن, بل أن أعمل في إطار تيّار وطنيّ عام. و قد تُرجم ذلك في تلك الفترة بمشاركتي في الاحتفالات الجماهيريّة المختلفة, و دعم الأطر النسوية بطرقٍ شتّى. و رحتُ أتابع العديد من المظاهرات الطلّابية التي كانت تنطلق من مدرسة الهاشميّة الثانويّة, في قلب مدينة البيرة, أرى طلّاب المدرسة يحرقون الإطارات, و يرفعون العلم الفلسطينيّ, و يكتبون الشعارات في اللّيل, و يوزّعون المنشورات الوطنيّة في النهار. هزّتني كيفية مواجهة الجيش الاسرائيليّ- أقوى جيش في المنطقة- للطلّاب المتظاهرين بالرصاص الحيّ و المطّاطيّ. في اللّيل يتجمع أبطال النهار من الطلّاب في بيت حمي, فأتابع النقاشات, و أشارك فيها, و أستغرب أين مقاومة الشعب, و لماذا أولئك الأبطال وحدهم في الشارع, و ماذا بإمكاننا أن نفعل. و رحتُ أتساءل: لماذا يهنأ المستوطنون بالعيش بسلام, و هم مغتصبون؟ لماذا تصلهم الماء و الكهرباء, و خطوط وصولها طويلة و معرّضة للإتلاف و التخريب؟ لماذا يتجوّلون و يتبضّعون في أسواقنا الشعبيّة و كأنّهم جزءٌ من نسيج السكّان الأصليّين؟ و كنتُ أردّد الأسئلة نفسها في صفوفي الجامعية و بين طلّابي: أين مقاومة الشعب؟ لماذا لا يخرج الناسُ جميعاً معكم, أنتم الشباب و الطلّاب, الى الشارع لمقاومة الاحتلال؟
ظللتُ أردّد مثل هذين السؤالين, أنا و غيري, ثماني سنوات, الى ان اندلعت الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987. و سرعان ما صرتُ أول محاضرة أكاديميّةٍ من جامعة بيرزيت تنزل الى الشارع و تلتحق بالمظاهرات و بإلقاء الحجارة و الاشتبالك مع الجنود الاسرائيليّين لتخليص المتظاهرين الشباب من أيديهم. أُصبتُ بعدّة رصاصات مطّاطيّة, ضُربتُ, و بكيتُ كثيراً حزناً على الشباب التي كانت بقايا أمخاخهم تتطاير أمام أعيننا لمجرّد أنّهم يتظاهرون ضدّ محتلّيهم, و لمجرّد أنّهم يتحدّون إرادة المحتل و يرفضون الخضوع و الذل.
***
على إثر الانتفاضة الأولى بدأت نشاطات أخرى, يقودها هذه المرة نشطاء من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين و الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ. كانت هذه النشاطات تبدو للبعض أكثر “ملاءمةً” لأكاديميّةٍ مثلي و لنساء من شريحتي الاجتماعيّة, لكونها عبارة عن لقاءات مع الاسرائيليّين و الاسرائيليّات من أجل “إفهامهم” حقيقة أوضاع الفلسطينيّين و شرح دوافع الانتفاضة. كان اللّقاء الأول مع الاسرائيليّات في مكان أصابني بصدمة نفسيّة قاسية: فقد كان المكان في مستوطنة إسرائيليّة قريبة من غزّة اسمها “هانيجبا,” و على المدخل نصبٌ تذكاريّ لبعض المعدّات العسكريّة التي تم الاستيلاء عليه من الجيش المصري في معركة الفالوجا عام 1948. انهمرت الدموع من عينيّ و لم أعد قادرة على رؤية الطريق التي أسير فيها الى مكان اللّقاء. طوال الطريق رحت أتذكّر الجنود المصريّين الذين حوصروا في المكان, أكاد أشمّ رائحة عظامهم و دمائهم و أتذكّر: أتذكّر من دفنوا أحياء في المكان, و أتذكّر الجرح الهلاليّ في جبين عبد الناصر عندما قاتل و حوصر في تلك المعركة. كانت التداعيات شديدة القسوة على نفسي, و جعلتُ طوال الطريق الى المنصّة أتساءل: “ماذا أفعل هنا؟ و من هؤلاء الناس؟ و لماذا أنا بينهم؟” حفاوة الترحيب بنا من طرف مستقبلينا, الذين فسّروا لنا “مغزى” وجود النصب, لم تساعد في إخفاء تجهّمي لوجودي في ذلك المكان.
كانت هناك زميلة فلسطينيّة أخرى معي, و كانت شديدة الدبلوماسيّة في ردودها على أسئلة الحاضرات. و كانت تهدّئ من روعي باستمرار, و تنصحني بالصّبر و طول النفس. و بعد شرح كيفيّة عيشنا و ماذا يفعل جيشهم و أبناؤهم بنا, شعرتُ باستفزاز كبير من جرّاء الأسئلة التي وجّهت إلينا في اللّقاء, و خاصة السؤال التالي: “كيف تستطعن, كأمّهات, ترك أبنائكنّ في الشوارع ليعرّضوا أنفسهم لخطر الموت على يد جيش الدفاع الاسرائيليّ؟”. هالتني المعاني الخفيّة للسؤال; فقد فهمته و كأنّه يعني أنّنا, كأمّهات فلسطينيّات, لا نتمتّع بغريزة الأمومة الطبيعيّة التي تدفع الأم الى حماية أطفالها. فهمتُ من السؤال, أيضاً, أنّ الاسرائيليّات يلمّحن إلى أن أطفالنا هم المخطئون لأنّهم موجودون في مكان الحضور “الطبيعي” للجيش الاسرائيليّ. ووجدتُ نفسي أصرخ من القهر و الغضب: “هذا سؤالُ عنصريّ, نحن بشرٌ مثلكنّ; ماذا يفعل جيشكم المدجّج بالسّلاح في شوارعنا؟ شوارعنا ملاعبُ أطفالنا; فبسبب احتلالكم لا توجد لدينا ملاعب و لا حدائق. اسألْنَ أبناءكنّ ماذا يفعلون في أرضنا ووطننا؟ انظرن في ملابس أبنائكنّ الجنود عندما يعودون الى بيوتكنّ لترين أنّها مخضّبة بدمائنا. و ماذا يمنعكنّ من معرفة ماذا يفعل أبناؤكنّ, إن كانت لديكنّ أكثر صحافة حرّة و ديمقراطيّة في المنطقة؟ هل تقرأن ما يكتب؟ هل تفهمنه؟ هل تردن أن تعرفن فعلاً, أم أنّكنّ تتجنبن المعرفة؟”
و توالت اللّقاءات: لقاء في قرية “السّلام” و آخر في تل ابيب, و ثالثٌ في بيت بعض النساء. ثم جاءت المؤتمرات الخارجيّة: نساءٌ من الشّريحة الاجتماعية نفسها, من الأكاديميّات و الناشطات السياسيّات, يلتقين في عواصم أوروبيّة “لتحقيق السّلام” و للتقارب و “لفهم الآخر”…إلخ.
أذكرُ حفل اسقبال نظّم على شرف المدعوّات الى مؤتمر في اليونان, رَعتْه زوجة باباندريو, رئيس الوزراء اليوناني في حينه. ذهبتُ الى الحفل و أنا أرتدي ثوباً فلسطينيّاً. سألتْ إحدى الاسرائيليّات بلؤم: “أهذا زي مصري؟”, قلتُ: “لا, فلسطينيّ, و لكنّنا في مصر, كما في العديد من الدول العربيّة الأخرى, نراه رمزاً ثقافيّاً لبقاء الشّعب الفلسطينيّ و صموده على أرضه العربية”, لم ترقها الإجابة و ابتعدتْ.
في اليوم التالي للمؤتمر بدأت نقاشاتُ “الحوار و معرفة الآخر” بين الفلسطينيّات و الاسرائيليّات. بدأتُ باستعراض تاريخيّ لمقاومة الشعب الفلسطينيّ, مع التركيز على دور نسائه. و توقّفتُ كثيراً عند موضوع اللّاجئين, و دور السّياسة الصّهيونيّة في اقتلاع الشعب و إنكار وجوده. ردّت على مداخلتي أستاذة تاريخ في جامعة تل أبيب من “محبّي السلام” فصُعِقتُ عندما سمعتها تقول إن بعض الأشياء التي ذكرتها في مداخلتي تسمعها للمرّة الأولى. وجدتُ نفسي , كمدفع سريع الطّلقات, أقول: “ولماذا لا تعرفين ذلك إذا كنتِ أستاذة تاريخ في جامعة؟ كيف لا تعرفين تاريخ المكان الذي تعيشين فيه؟ مَنْ عليه أن يعرف إذاً؟” لم تستطع الرد, و لجأت الى الدموع, و أوقفتْ بعضُ الدّاعيات الى المؤتمر النقاش للتخفيف من وطأة “الضغط النفسي” الذي يسبّبه الحديثُ عن التّاريخ.
و في لقاء في بولونيا (إيطاليا) مع نسويات إيطاليات و أوروبيات و اسرائيليّات و فلسطينيّات, كان محور اللّقاء النقد النسوي المعروف عن “ذكورية وأبوية القوميات و الفكر القومي” و كيف أنّ على النساء “عدم الانجرار” الى المشاريع القوميّة لأنّها بالضرورة ذكوريّةً و ضد النسويّة “التي توحّد النساء جميعاً,” و أنّ على النساء –كجنسٍ مضطهَدٍ أينما كنّ- أن يركّزن على ما يجمعهنّ كجنس. و تصدّت إحدى النسويّات الاسرائيليّات للتدليل على مدى نسويتها في مواجهة الآخر المختلف قوميّاً, فذكرتْ تفاصيل نشاطها, و هي عالمة الإنسان في جامعة بئر السبع, مع الشرطة الاسرائيليّة التي تستخدمها خبيرةً نسوية في المساعدة على “تطوير” النساء البدويات في النقب بالانتقال الى البيوت الحديثة المجهّزة بدلاً من العيش في خيم البدو. أذهلني الأمر ووجدتُ نفسي أقول لها: “ولكنّك هنا لست نسويةً و لا تنمويةً, بل شريكةٌ في الاستيطان و مصادرة أرض الفلسطينيّين من البدو. أنتِ شريكةٌ في الاستيطان في سرقة أرضهم و حرمانهم و مصدر رزقهم الرئيس, و هو الزراعة و تربية الماشية. مَن قال لكِ إنّ البدويات اللّاتي تعملن أنتنّ لإقناعهنّ بترك بيوتهنّ, و لو كانت من الشَّعر, يُردن فعلاً تركها؟ من قال لكِ إنّ التمدّن هو أن تُحشر عائلاتهنّ الكبيرة في غرف صغيرة فقيرة التجهيز؟ و من قال لك إن رغبة النساء تختلف عن رغبة رجالهنّ في عدم ترك بيوتهم و أرضهم؟” راحت عالمة الانسان “الخبيرة” تبكي أمام مرأى الجميع و مسمعهنّ لتستدر تعاطفاً رخيصاً, و لتمنع حواراً عقلانيّاً يفحص مدى “نسوية” المشروع الصّهيوني في فلسطين. المؤسف أن بعض المشاركات الفلسطينيّات ابتلعن هذا الخطاب للتدليل على مدى وعيهنً “النسوي.” لم يَرقني الكلام, و فرّقت في مداخلتي بين مشاريع قومية عدوانيّة و مشاريع قوميّة تنْشد الاستقلال و السّلام العادل و الرّخاء لشعوبها. و أوضحتُ أنّ الاسرائيليّات المنتقدات للقومية حقّقن قوميّتهنّ على أرض مغتصبة يُمنع شعبها بالقوة من تقرير مصيره و تحقيق قوميته; “فنُترك كشعبٍ لنحقّق قوميتنا, و بعدئذٍ ننتقد ذكورية قوميّتنا كما تفعل الاسرائيليّات! كما أن الشّيوعيّين (فلسطينيّين و اسرائيليّين) جرّبوا التوحّد على أساس الطبقة, لا القوميّة, و فشلوا: فلماذا ستنجح النسويّات, و لا سيّما إذا وُجدَ بعضهّنّ على مستوطنات مقامةٍ بالغصب على أراضي نسويّات الطرف الآخر؟!”
ثمّ كان المؤتمر الأخير الذي شاركتُ فيه في بلجيكا. و كان على مستوى عالٍ من الحضور السياسيّ و الأكاديميّ من الطرف الاسرائيليّ و الفلسطينيّ و الاتحاد الأوروبي. في هذا المؤتمر, الذي كان يهدف على ما يبدو الى إعلان “مشروع مشترك إسرائيليّ/فلسطينيّ” للتدليل فعليّاً على إمكانية التعايش و العمل سويّاً و قبول “الآخر”, جرت بعض النقاشات كالمعتاد, و لكن كان يتمّ الدفع بما يريد المنظّمون الوصول إليه في نهاية المؤتمر. و كان جزء من الفعّاليات هو مقابلة الوفود لمتنفّذين في الاتحاد الأوروبي من أجل تمويل المشروع قبل أن يوافق عليه الطرف الفلسطينيّ. و فعلاً, تمّ الأخذ بتأسيس مركزين نسويين, واحد اسرائيليّ و الآخر فلسطينيّ, و لكن بهيئة تقريرية مشتركة. و بدا أن الأمر متّفقٌ عليه مسبقاً, و بدأت تتّضحُ لي فحوى “صناعة السّلام” من الأطراف المنغمسة فيها, و ماهية أجندتها السياسيّة التي تدفع الى تطبيع العلاقة مع الآخر لبناء السّلام من “أسفل” قبل أن يوقّع عليه فعليّاً السياسيّون من “أعلى.” رأيتُ أن من يسايرون “الصناعة” المذكورة يحوزون شهرةً و أهمية سياسيّة و إعلاميّة لا مثيل لهما, و يُستقبلون كوزراء و مسؤولين كبار. ولكنّ كل هذه الاحتفاليّات لم تُعمني عن رؤية أن ما يمور تحتها سياسيّاً هو اللّاشيء: فلا يوجد سلامٌ حقيقيٌّ وقع, و لا مقايضة تاريخيّة تنهي الصّراع, و لا لاجئون عادوا, و لا استيطان توقّف. لقد رأيتُ لأن تحت هذه اللّقاءات, ووراءها, المشروع الصّهيونيّ القديم نفسه, لكن ببعض مساحيق “العلاقات العامة” الاحتفاليّة التي توجّه رسائل خادعة بأنّ هناك شيئاً ما يتقدّم على الأرض, و هو أن “الطرفين يتقاربان و يتقابلان” أما لماذا يتقابلان, وبأي هدف, فقد أصبح ذلك من قبيل الأسئلة المزعجة التي لا تليق بدبلوماسية الحدث, أو خوائه بالأحرى.
***
ردود الأفعال هذه, إضافة الى الجهد النفسي و العصبي و الذهني الذي ينتج عنها, جعلتني أتساءل: ماذا أفعل في هذه النشاطات؟ و ماذا أفعل بين هذه “الشخصيات” التي تبرز يوميّاً و لا أحد يدري من أين و لماذا و من تمثّل و من وضعها في هذا المكان؟ و بأيّ صفةٍ, و لأي إنجاز, تقلّد الأوسمة, و تُمنح المناصب و الجوائز, لهذه الشخصيات و المؤسّسات التي تتوالد كالفطر يوميّاً؟
لم يستغرقني الأمر كثيراً لأعي أن مكاني ليس هنا, بل في الطرف الآخر الذي بدأت مسيرتي معه: إنّه الطرف المقاوم في الشارع للمشروع الصّهيوني على فلسطين, كلّ فلسطين. دوري هو فضح السّياسات و الممارسات الصّهيونيّة, و مقاطعة من يؤبّدونها و يمدّونها بماء الحياة, من سياسيّين و مثقفين و أكاديميّين و نسويات و غير ذلك. و هكذا كرّست جهدي منذ ذلك الوقت لفضح الحجج الواهية و الطرق المخادعة لإمكانية “التواصل” مع الآخر, بينما هذا الآخر لا يريد أن يتزحزح من موقع القوة الذي يسيطر فيه على مقدّرات أمةٍ و على أرض شعبٍ بأكمله. رأيتُ, إذاً, أنّ أقصر طريقٌ للتواصل مع الآخر هو العمل على إنهاء سيطرته و غطرسته و عنصريّته و سطوته, لا الانخداع بحملات “العلاقات العامة” و اللّقاءات “السياحيّة” في عواصم أوروبا و فنادقها الفاخرة.
من هنا أصبحتُ جزءاً من “الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة و الثقافيّة لإسرائيل” لأعمل على شقّ طريقٍ للالتقاء بهذا “الآخر” على قدم المساواة, و من دون تبعيّة, و من دون مساهمة في تجميل صورته العدوانية المتغطرسة.
فلسطين
* أستاذة مساعدة في موضوعات الجنوسة و التنمية في جامعة بيرزيت, و من مؤسّسي مركز الدراسات النسائيّة فيها, و من مؤسّسي “اللّجنة التقنيّة لشؤون النساء.” نشرت الكثير من الأعمال عن المشاركة السياسيّة للمرأة الفلسطينيّة و العربيّة. كما أسهمت في كتابة تقرير التنمية البشريّة العربية عام 2005.
مجلة الآداب 6/5/4/2008
إصلاح جاد*