التطبيع ودوْر النُّخَب المثقّفة
طلب إليّ القيّمون على مؤتمركم الكريم أن أدلي بمداخلة تحت عنوان “التطبيع ودوْر النُّخَب المثقَّفة.” لكنّي أرى إشكاليّاتٍ في العنوان نفسه:
– فما معنى النُّخب؟ وعلى أيّ أساسٍ انتُخِبتْ؟ ومَن انتخبها؟ “نخبٌ” عديدةٌ، كما تعلمون، قابعةٌ في خانة السلطات، أو هي حليفةٌ للاستعمار، وتستحقّ لقب “تُبَّع” (جمع تابع). لذا أقترح التحرّر من مصطلح “النُّخَب” من أساسه.
– الأمر نفسُه ينطبق، إلى حدٍّ ما، على “المثقّفين.” وحين نستخدم هذا المصطلح، فينبغي أن يكون ذلك لغاياتٍ إجرائيّةٍ فقط؛ فهؤلاء ليسوا فئةً أو طبقةً واحدة، وهم لا يدعمون كلُّهم (ولا بغالبيّتهم) أهدافَ التحرّر.
– والإشكاليّة تنطبق أيضًا على كلمة “دوْر.” ألا تلاحظون إسرافًا في الحديث عن “دوْر المثقف العربيّ”؟ ومع ذلك فإنّ كثيرًا من المسْرفين في الكلام على “دور” هذا المثقّف في مقاومة التطبيع تحديدًا لا يمارسون هذا الدوْرَ بقدْر تنظيرِهم له — علمًا أنّ التنظير ضروريّ ولكنّه لا يُوفي “الدوْرَ” حقّه كاملًا.
سأحاول هنا أن أطرحَ عددًا من الاقتراحات التي أرى أنّ في مقدور العاملين في الشأن الثقافيّ أن يضطلعوا بها أو ببعضها من أجل مواجهة التطبيع مع العدوّ؛ إضافةً طبعًا إلى ما يقومون به أصلًا في هذا المجال.
1) توثيق التطبيع وتوثيق مقاومته. التطبيع لم ينشأ اليوم، بل له جذور، أبرزُها في اتفاقيّات كامب دايفيد، مع مثقّفين أمثال توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي (الأخير حاضَرَ في جامعة حيفا سنة 1978)، قبل أن تتفاقمَ الأمورُ مع لطفي الخولي وعبد المنعم سعيد وحسن الحيوان وصلاح بسيوني ومراد وهبة وغيرِهم من المثقفين المصريّين والفلسطينيّين والأردنيّين الموقّعين على إعلان كوبنهاغن سنة 1997 إلى جانب ديفيد كمحي وشلومو بن عامي وآخرين من الجانب الإسرائيليّ.[1] أمّا مقاومةُ التطبيع فقد بدأت في فلسطين منذ حلول الاستيطان الصهيونيّ أوائلَ القرن المنصرم،[2] لكنّها تجلّتْ ساطعةً في مصر في نهاية السبعينيّات مع كتّابٍ كبار أمثال لطيفة الزيّات وحلمي شعراوي وسيّد البحراوي ورضوى عاشور وصلاح عيسى ضمن “لجنة الدفاع عن الثقافة القوميّة.” (مَن ينسى تنظيمَ هؤلاء لتظاهرة احتجاجيّة على مشاركة العدوّ في معرض الكتاب في القاهرة في كانون الثاني/يناير 1981 ومواجهتَهم الشرسةَ لقوّات الأمن المصريّة؟).[3] لذا، على مناهضي التطبيع أن يعودوا إلى التاريخ القريب من أجل استيعاب أسس التطبيع وسبلِ مقاومته.[4]
2) التطبيع مرتبط، عادةً، بفكر الانعزال عن المحيط العربيّ. يَصْعب أن تجدوا مطبِّعًا أو تطبيعيًّا يؤْمن بالفكر القوميّ؛ وكثيرًا ما يروِّج – من دون أيّ إثبات – أنّ التطبيعَ يُفيد بلدَه الذي “أرهقتْه” قضيّةُ تحرير فلسطين. لذا، فإنّ جزءًا من عمل المثقف المناهض للتطبيع لا بدّ من أن يكرَّسَ لترويج الفكر القوميّ وتجديدِه وجعلِه مشروعًا جذّابًا ورشيقًا ومُقْنعًا. وهذا العمل يَشمل التصدّي لشعارات “لبنان أوّلًا” و”الأردن أوّلًا” و”مصر أوّلًا” (إلى آخره)، بعد إظهارِ أنّ الصهيونيّة عدوُّ كلّ الطامحين في أقطارنا إلى الاستقلال والتقدّم، وأنّ مشروعَها هو استتباعُ خيرات هذه الأقطار لمصالح الاستعمار الذي أنشأ الكيانَ الصهيونيَّ نفسَه.[5]
3) التطبيع مرتبط بالإعلام الرسميّ العربيّ. وذرائعُ التطبيع منتشرةٌ على الفضائيّات تحت ستار “الرأي الآخر” و”حريّة التعبير.” لذا، فإنّ محاربة التطبيع تكون بمحاربة هذا النهج الإعلاميّ الذي يسوِّق التطبيعَ على أنّه محضُ حوارٍ مع “آخر،” لا مع محتلٍّ ومستعمِرٍ ومهجِّر. وواجبُ المثقّف الذي نطمح إليه هو أن يرسِّخ مقاومةَ دولة الاحتلال في المجالات كافةً، وعلى رأسها المجالُ الإيديولوجيّ، كي لا ينتشرَ الزعمُ أنْ لا عداءَ إيديولوجيًّا معها وأنّ “مشاكلَنا” معها تُحلّ بالتزامها المبادرةَ العربيّة في قمّة بيروت.
وفي هذا الإطارينبغي فضحُ الشعارات التطبيعيّة الرائجة إعلاميًّا، من قبيلِ أنّ “التواصلَ مع إسرائيل هو من باب إعرفْ عدوَّك” وأنّ “زيارةَ السجين ليست كزيارة السجّان” وأنّ “أوسلو ممرٌّ إجباريٌّ للتحرير” وأنّ “التنسيقَ الأمنيّ مع إسرائيل يَخدم الشعبَ الفلسطينيّ” وأنّ “مناهضة التطبيع تنمّ عن فكرٍ أصوليّ يكبح حريّة التعبير.”[6] وربّما ينبغي تكريس مراصد ثقافيّة-إعلاميّة للردّ على تلك الشعارات.
4) استكمالًا لِما سبق نضيفُ أنّ التطبيع مرتبطٌ بفكرٍ ليبراليٍّ ماكرٍ يَعْزل الأكاديميّين الإسرائيليّين عن المؤسّسات التي يعملون فيها. بيْد أنّ هذه المؤسّسات، في واقع الأمر، ضالعةٌ في قمعنا عبر وسائلَ متعدّدة، أشرسُها الإسهامُ المباشرُ في دعم الجيش الإسرائيليّ: فمعهدُ تخنيون التقنيّ، مثلًا، طوّر أنظمةً قتاليّةً ضدّ الفلسطينيّين؛ وجامعةُ تل أبيب تضمّ معهدَ دراسات الأمن القوميّ، صاحبَ نظريّة “القوة غير المتوازنة” الداعيةِ إلى تدمير البنية التحتيّة المدنيّة وإنزالِ أشدِّ أنواعِ المعاناة بحقّ المدنيّين وسيلةً لهزيمة المقاومة الفلسطينيّة.[7] الفكر التطبيعيّ يتساهل مع “نقاش” الأكاديميّين الإسرائيليّين وكأنّهم لم يسبقْ أن خَدَمَوا في الجيش الإسرائيليّ سنتيْن، أو ليسوا جزءًا من كيانٍ قاتلٍ ومحتلّ وتوسّعيّ حتى اللحظة. وعلى المثقف المنشود مسؤوليّةُ وضع الأكاديميا الإسرائيليّة، عمومًا، في سياق الاحتلال والاستعمار، وفي سياق تبريرِهما.
5) التطبيع مرتبط بقطاع التربية. كم من أولادنا في لبنان مثلًا تعلّموا شيئًا في المدارس عن نكبة فلسطين والمقاومة المستمرّة منذ ما قبل نشوء الكيان؟ كم واحدًا منهم يَعْلم أنّ هناك قانونًا في لبنان يُلزم اللبنانيين بعدم التعامل مع “إسرائيل”؟ يجب على العاملين في الحقل التربويّ، وهو حقلٌ ثقافيٌّ بامتياز، تدريسُ تاريخ الصراع مع العدوّ بشكلٍ واسع، بعيدًا عن فزّاعة “تسييس التعليم.”وللتوسّع في هذا المجال، أحيلُكم على مؤتمرٍ عقدتْه حملةُ المقاطعة واللقاءُ الوطنيّ ضدّ التطبيع في 17 أيّار 2019 في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة، ونُشرتْ أبحاثُه في مجلة الآداب.[8]
6) للتطبيع حواملُ سياسيّةٌ وحزبيّة وأنجيأوزيّة. لذا فإنّ إحدى وسائل محاربته تكون بانخراط المثقّفين الوطنيّين في حملات المقاطعة ومناهضةِ التطبيع، والعملِ على نشرِ مبادئها وترشيد أدائها إذا اقتضى الأمر. على المثقّف المستقلّ أن “يتنازلَ” ويشاركَ في عمل هذه الحملات لأنّ العملَ الجماعيّ – عادةً – أقوى أثرًا وأوسعُ انتشارًا. أمّا المثقف الوطنيّ الحزبيّ، فنناشدُه أن يعملَ على أن تَشْغل قضيّةُ المقاطعة ومواجهةِ التطبيع أُولى أولويّات حزبه، بل نقترح أيضًا أن يبادرَ إلى تطبيق شعار “اعرفْ عدوَّك” من داخل هذا الحزب، وذلك عبر إنشاء ورشِ عملٍ داخليّةٍ مصغّرةٍ من أجل الاطّلاع على إنتاج العدوّ مقرصَنًا — على أن يديرَ هذه الورشَ متخصّصون عارفون بتاريخ الصراع والدعاية الإسرائيليّة التضليليّة.
7) المقاطعة ومقاومة التطبيع خيارٌ يمكن أن يكون ناجحًا، لا محضَ شعارٍ طوباويّ. وقد أثبتتْ حركةُ المقاطعة العالميّة (BDS) قدرتَها على تحقيق مئات الإنجازات، إلى حدّ قول مسؤولين صهاينة إنّها باتت تشكّل “خطرًا استراتيجيًّا على إسرائيل.”[9] لذا أرى أنّ من واجب المثقف المنشود أن يَنشر إنجازاتِ المقاطعة، ولاسيّما في مجال سحب الاستثمارات ووقفِ المشاريع المرتبطة بالاحتلال، من أجل أن يبثَّ في الناس شيئًا من ثقافة الأمل مقابل ثقافة الإحباط الطاغية. وفي اعتقادي أنّ المشتغلين في الشأن الثقافيّ العربيّ يَغلب عليهم الإحباطُ والسوداويّة؛ وهذا مُضرّ بأيّ مشروع تحرّريّ مستقبليّ.
8) التطبيع ليس محصورًا بطائفةٍ أو مذهب. ومن ثمّ فإنّ مقاومتَه ليست مقصورةً على طائفةٍ بعينها أو مذهبٍ بعينه. لذا، ينبغي على مثقفنا، خصوصًا اليوم، عدمُ الإسهام في تطييف التطبيع ومذهبتِه، ولا في تطييف مقاومة التطبيع ومذهبتِها. فالشيعة مثلًا ليسوا – في ذاتهم – مقاومين للتطبيع؛ والسُّنّة ليسوا – في ذاتهم – مطبِّعين.
9) على هذا المثقّف أيضًا عدمُ الخلط بين أنظمة التطبيع الخليجيّة والمواطنين القاطنين في الخليج، وبينهم مناضلون يقبعون اليوم في السجون دفاعًا عن فلسطين ومناهضةِ الاستعمار. إنّ تعاملَ بعض المثقّفين المشرقيّين مع أهلنا في الخليج ينمّ عن عنصريّةٍ فجّة. وأحبُّ أن أذكّر، في هذه المناسبة، بأنّ 9% فقط من السعوديين و20% فقط من الإماراتيين يؤيّدون التطبيع، وفقًا لاستطلاعيْ رأيٍ أجراهما (صيفَ العام 2020) معهدُ واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.[10] كما أظهراستطلاعٌ جديدٌ أجراه المركزُ العربيّ للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة أنّ نحو 90 في المئة من القطريّين والكويتيّين يرفضون الاعترافَ بالكيان.[11]
10) ينبغي على مثقّفنا ألّا يُخْضعَ مسألةَ مقاومة التطبيع ومقاطعةِ “إسرائيل” لأيِّ من التكتيكات أو التحالفات السياسيّة. إنّ أولويّةَ محاربةِ “إسرائيل” وعزلِها ينبغي أن تعلو فوق أيّ تكتيكٍ أو تحالف؛ فكيف إذا كان هناك قانونٌ يُلزم جميعَ اللبنانيين (والعرب) بذلك؟ للأسف بعضُنا لا يَعلم أنّ جامعةَ الدول العربيّة أصدرتْ سنة 1950 قانونًا تبنّاه لبنان سنة 1955، وتنصّ مادّتُه الأولى على الآتي:
“يُحظَّر على كلّ شخصٍ، طبيعيٍّ أو معنويّ، أن يَعْقدَ، بالذاتِ أو بالواسطة، اتفاقًا مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ مقيمين في إسرائيل، أو منتسبين إليها بجنسيّتِهم، أو يعملون لحسابِها أو لمصلحتِها، وذلك متى كان موضوعُ الاتفاق صفقاتٍ تجاريّةً أو عمليّاتٍ ماليّةً أو أيَّ تعاملٍ آخرَ مهما كانت طبيعتُه.”[12]
تفعيلُ هذا القانون مطلوب كي نَمنع أيَّ فنّانٍ لبنانيّ من تصوير فيلمٍ في الكيان الصهيونيّ مثلًا، وكي نَحُولَ دون أيِّ تواصلٍ أكاديميّ أو فنّيّ أو رياضيّ أو نشريّ مع رعايا هذا الكيان ومؤسّساته (طبعًا ينبغي ألّا يشمل ذلك أهلَنا في فلسطين المحتلّة عام 48). فمثلُ هذا التواصل “يلمِّع” صورةَ الكيان الدمويّة، ويُشْرع الأبوابَ أمام اتفاقيّات “السلام” لاحقًا.
ومن مهامّ القانونيّين الوطنيّين في هذا المجال تجديدُ هذا القانون، وتغليظُ العقوبات على منتهكيه. وهذا ما قامت به فعلًا “الجمعيّةُ اللبنانيّةُ لدعم قانون المقاطعة” قبل أكثر من ثمانية أعوام.[13]فلماذا لم يَجْرِ، حتى اللحظة، تفعيلُ هذا القانون وتبنّي تعديلاته المقترحة، على الرَّغم من وجود كتلةٍ ضخمةٍ داعمةٍ للمقاومة في البرلمان اللبنانيّ؟!
11) نقترح على مثقّفينا التشديدَ على أنّ صراعَنا مع العدوّ ليس صراعًا دينيًّا. أولًا لأنّ المشكلة، كما يقول السيّد جعفر فضل الله، “ليست مع اليهوديّة كدين، وإنّما مع الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين والأرض العربيّة… وثانيًا: لأنّ إضفاءَ البُعد الدينيّ على الصراع يُخْفي… أنّ الاحتلالَ الصهيونيّ مشروعٌ استعماريّ… وثالثًا: لأنّ حصرَ الصراع بالهُويّة الدينيّة سيَستبعد تاريخًا من النضال الذي قامت به جهاتٌ لم تنطلقْ من أسسٍ دينيّة…”[14] ونضيف أنّ تديينَ الصراع مع العدوّ يَفتح المجالَ أمام التطبيع من بوّاباتٍ مزيّفةٍ، عنوانُها “حوارُ الاديان” و”وحدةُ الديانات الإبراهيميّة” (وهي عنوان “اتفاق أبراهام” الإماراتيّ-الإسرائيليّ).
على أنّ ذلك لا يَحُول دون أن يكون الدينُ (غيرُ الممذهَب) محَفِّزًا للنضال ضدّ “إسرائيل” ضمن محفِّزاتٍ وطنيّةٍ أخرى.
12) من مهامّ المثقّف المعادي لـ”إسرائيل” تجديدُ أساليب مواجهة التطبيع. أساليبُ معظمنا في هذه المواجهة خطابيّةٌ وكتابيّة، وقلّةٌ منّا تلجأ إلى الإنفوغرافيكس والفيديو مثلًا، مع أنّ هذه الأساليبَ أكثرُ جذبًا للجيل الشابّ. وقد سبق أن اقترحتُ تطويرَ المقاومة الإلكترونيّة عبر مجالاتٍ يُبْدع فيها المثقّفون الشبابُ بشكلٍ خاصّ، ومن بينها:
– إنشاءُ تطبيقٍ كرتونيّ (أنيمايشن) للأطفال يبسِّط تاريخَ الصراع مع العدوّ.
– إنشاءُ تطبيقٍ عن الفنّ المقاوم.
– نشرُ مسابقةٍ على النشء الجديد، عبر الفضاء الإلكترونيّ، لحثّ الطلاب على معرفة فلسطين، وتاريخِ المقاطعة، وجرائمِ العدو، وأبطال المقاومة وشهدائها.[15]
13) مقاومة التطبيع مرتبطة في أذهان البعض بسقف قمّة بيروت (2002). وهذه القمّة صادقتْ بالإجماع على المبادرة السعوديّة، التي تلخّصتْ في الآتي:
“1) الانسحاب الإسرائيليّ من الأراضي العربيّة المحتلّة عام 1967، والأراضي التي ما زالت محتلّةً في جنوب لبنان. 2) التوصّل إلى حلٍّ عادلٍ لمشكلة اللاجئين الفلسطينيّين، يُتَّفق عليه وفقًا لقرار الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة. 3) قبول قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 تكون عاصمتُها القدسَ الشرقيّة. 4) عندئذٍ تقوم الدولُ العربيّةُ بما يلي: أ) اعتبار النزاع العربيّ-الإسرائيليّ منتهيًا، والدخول في اتفاقيّة سلامٍ بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة. ب) إنشاء علاقات طبيعيّة مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل…”[16]
على المثقف المنشود، في رأيي، أن يرسم سقفًا أعلى بكثيرٍ من سقف هذه المبادرة البائسة، التي تتخلّى عن 78% من فلسطين، بما فيها ما يسمّى “القدسَ الغربيّة،” وبعد ذلك تتعهّد الدولُ العربية بإنهاء “النزاع”! لا سلامَ عادلًا وشاملًا، أيّها الزملاء، بمجرّد العودة إلى حدود 67، بل بزوال دولة الاحتلال وهزيمةِ المشروع الاستعماريّ الذي أنجبها. على المثقف المنشود هنا أن يتخلّى عن منطق “الواقعيّة” العربيّة التي جُرِّبتْ منذ ما قبل أوسلو 1993 وأثبتتْ فشلَها الذريع في وقف الاستيطان والغزو والقتل.
14) أخيرًا لا آخرًا، فإنّ مقاومة التطبيع، بل مقاومةَ المشروع الصهيونيّ ككلّ، مرتبطةٌ في أذهان كثيرين بـ”تأجيل” معركة التغيير الداخليّ، أيْ تأجيل القضاء على الفساد والطائفيّة والقمع والاستغلال الاقتصاديّ-الاجتماعيّ. من واجب المثقف المنشود، كما نرى، أن يَربط دومًا بين المعركتيْن؛ علمًا أنّ “ترابُطَ التحرير والتحرّر” شعارٌ جذّابٌ لكلّ مَن يرفض أن تكون “الديمقراطيّة” بديلًا من التحرير القوميّ، أو أن تكون “مقاومةُ إسرائيل والاستعمار” شمّاعةً للمزيد من القمع والترهّل الداخليّيْن.
بيروت
*كلمة رئيس تحرير الآداب والعضو المؤسِّس في حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في ندوةٍ أقامها مركزُ الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة تحت عنوان “المجتمعات التعدّديّة ومقاومة التطبيع – مقاربات سوسيولوجيّة،”
الاداب
21 كانون الثاني 2021