في ذكراك يا سماح.. طوفان المقاومة مستمر

0

ثلاث سنوات ثقيلة مرت علينا برحيل سماح إدريس، وبسمتُه، وكلماتُه، ونهجُه، ووصيتُه حاضرة فينا: “إذا تخلينا عن فلسطين تخلينا عن أنفسنا”. في هذه الأيام التي تزهر فيها جراح المقاومين، وتُحفر فيها وصايا الشهداء على التلال والصخور، وتهز فيها صرخات المظلومين عروش المستكبرين، نبحث بين غارتين عن كلماتك يا سماح، فتغرينا بالأمل، والفرح، وتعوّذنا بالتراب من كل انكسار أو هزيمة.

 

فيما يلي بعض من الكلام الذي نثرت، عابرا الأيام والحدود، قاهرا الموت، جديرا بالحياة.

 

سماح إدريس، المثقف الملتزم والمشتبك، غني أنت عن التعريف، ولكن كيف تحب أن تعرف بنفسك؟ وما هي كلمتك الأولى؟

 

اسمي سماح سهيل إدريس، توفيت منذ ثلاث سنوات، وولدت قبلها بستين سنة. أزور فلسطين صباح مساء، وأنا عضو مؤسس في حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان، ورئيس تحرير مجلة الآداب المتوقفة حاليا عن الصدور، وأعمل على معجم عربي عربي آمل أن أفرغ منه قريبا. أقول لك بكل ثقة: فلسطين مشتاقة إلينا، وكذلك قرانا التي نزحنا منها، وإننا لعائدون.

 

أنت من القلة من المثقفين الذين ما يزالون على موقفهم الثابت من قضية فلسطين، ولا تفوّت مناسبة كي تعلن تضامنك معها. هل من تعقيب؟

 

تضامن؟ مشكلتنا الأساسيّة، كناشطين عرب، فيما يخصّ قضيّةَ فلسطين تحديدًا، تكاد تتلخّص في جملة واحدة: بؤس مفهوم “التضامن”. ليس مطلوبًا منا كعرب ان “نتضامن” مع فلسطين، بل ان نكون فلسطينيين. أن نناضل، كل من موقعه، في عملية تحرير كل ما احتلّته “إسرائيل”، أراضي وأوطانًا ومياهًا… وعقولًا.

نحن نملك أسلحةً أهمّ بكثير من التظاهر، ومن التبرّع بالدم لغزّة، ومن جمع الأموال والدواء، من دون التقليل من أهميّة هذه الوسائل جميعها.

معركة فلسطين الجديدة تعيدنا إلى المربع الاول: تصميمنا على الخلاص من الصهيونية برمتها ومن كيانها المزوّر من أساسه. نحن أبناء غسان كنفاني، وعبد الناصر، والحكيم جورج حبش، وأبي هاني (وديع حداد)، وجوزيف سماحة، ورئيف خوري، وإدوارد سعيد، وأنيس صايغ، وشفيق الحوت، لن نتخلّى عن فلسطين وشعب فلسطين.

 

ولكن أليس بناء دولة حديثة على أسس ديمقراطية، وتمكينها اقتصاديا وتحصينها عسكريا مقدمة أساسية للقدرة على مواجهة “إسرائيل”؟ أنت ترى ضعف مقدرات المقاومة في غزة ولبنان مقارنة بالجيش الإسرائيلي.

 

أولا، إلى أنصار الديمقراطية في الوطن العربي: لا ديمقراطية في أوطانكم مادامت فلسطين مضطهَدة ومقتولة!

ثم، من “ينعى” إمكانيات المقاومة، عليه أن يبحث عن طرق لتعزيز هذه الإمكانيات، لا للجمها ووقفها. كلّ نعي من هذا النوع يصبّ في خدمة العدو.

يا أخي فلنقلها بصراحة: حين تهدد المقاومة اللبنانية بالردّ، يسخرون منها. وحين ترد، لا يعجبْهم الردّ، أو يخوّفون الناس من الردّ الإسرائيلي. طيب، هل تنتظركم المقاومة كي تردّوا أنتم؟ وبماذا ستردّون؟ أصلًا، أنتم ضدّ الردّ.

فلنأخذ كلامهم على محمل حسن: تريدون مقاومة مدنية؟ قاطعوا على الأقل. ثم من قال لكم إن المقاومة المدنيّة تعني شتمَ السلاح والتخلّي عنه إرضاءً للمموِّل الأجنبيّ؟ المقاومة المدنية رديف للمقاومة المسلّحة.

 

لكن د. سماح، هناك البعض ممن ينتقد المقاومة وهو صريح في عدائه للصهيونية ويتمنى تحرير فلسطين، لكنه يرى الدمار والقتل في غزة وفي لبنان، ويحق له أن يسأل: ما الفائدة من كل هذا؟

 

لا مقاومة بلا نقد. لكنْ “نقد عن نقد بيفْرق” اقتباسًا عن كنفاني “خيمة (الفدائي) تفرق عن خيمة (اللاجئ)”. هناك نقدٌ يهدف الى نزع السلاح وتعميم الاستسلام؛ وهناك نقد يهدف الى تعميم المقاومة. وحده النقد الثاني يفيد التحرير ويفيد فلسطين. ولكن بربك، ألا يمكن الانتظار حتى تنجلي المعركة؟

وبالكلام عن الدمار والموت، أتفهّمُ ألا يعتبر البعض ما تحقّقه المقاومة نصرًا، بل أن تعتبرَه هزيمةً بمعايير من يقيسون “النصرَ” بمسطرةِ ما يوافق مزاجَهم. لكنْ لماذا لا تحتمل أن تَعتبر أمُّ شهيدٍ ما حدث نصرًا؟ اترك الناسَ “المضلَّلين” يهلّلون وهم يدفنون أحبّتَهم، واخرسْ ولو بضعةَ أيّام قبل أن تعاود التبشيرَ بـ”عقلانيتك”.

ثم ‏كيف تعرف اننا نزداد حياةً؟ كلما اشتدّ القصف، ازدادت الصواريخ على العدو وتطورت نوعيتها.

 

وماذا تقول لأنصار المقاومة لا سيما في لبنان، وماذا يمكن لهم أن يفعلوا؟

 

أقول لهم، ما دامت بوصلتكم فلسطين، فلن تضلوا. كما أن معركتنا من أجل فلسطين ليست لاسترجاع الارض فقط، بل أيضا وأساسا من أجل بناء (أو ترسيخ) مفاهيم الاخوّة والكرامة. وأقول لهم اليوم، والمعركة في أوجها: في حروب غير كلاسيكية، ليس المطلوب ندّيّة في السلاح، بل إرادة وعزيمة وتنسيق وتدريب وكفاءة وتحالفات وتطوير تدريجي لمنظومات التسلح. وأقول لهم إن المقاومة الحقيقية تقبل النقد، خصوصا من مناصريها النقديين، والنقد هو دليل الوفاء الحقيقي والتقدم الفعلي. وأضيف: لا تستطيعون أن تقاتلوا “إسرائيل” بيد وتسهموا، في الوقت ذاته، في دعم اقتصادها وصورتها “الحضارية”. قاطعوا ما استطعتم إليه سبيلا.

أمامنا، وبين ظهرانينا، مئاتُ الشركات والمصالح الأميركيّة والأوروبيّة الداعمة لكيان العدوّ. ولو شعرتْ هذه الشركاتُ بأنها تخسر شيئًا من أرباحها جرّاءَ المقاطعة، فلن تبقى الحكوماتُ الغربيّة على الدرجة نفسها من التأييد للكيان الغاصب.

اليوم، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، أشعر أنّنا، كعرب وكناشطين عرب، لسنا عاجزين عن ردّ العدوان بقدر ما نحن جاهلون لمصادر قوتنا. وهذه القوة لا تقدر أن تهزمَها كلُّ أنظمة القمع العربيّ:

فهذه لا تستطيع أن تفرض عليّ شراءَ منتوجٍ داعمٍ للعدوّ، أو استئجارَ شركةٍ تزوّد الاحتلال بمعدّات إنذار، أو التعاملَ مع شركة تزوّد الاحتلال بجرّافاتٍ تجرف بيوت الفلسطينيين.

 

يقول البعض إن معادلة: “جيش وشعب ومقاومة” سقطت، ما تعليقك؟

 

عن جد “مش هين تكون لبناني”. نحن”شعب” لا يتفق على شيء. وضايع بهويته، وبأعدائه، وبأصدقائه، وبلغاته المحكية. في كل لبناني مزيج نادر من المقاومة (بغض النظر عن العدو) والفهلوة والطائفية و”الحضارة” والإحساس بالغبن (كلنا نحس بالغبن بالمناسبة). التوفيق بين هذه المكونات “الغنية” في كل واحد منا يحتاج الى المزيد من الفهلوة… والحس التجاري. معادلة “جيش وشعب ومقاومة” خشبية ونص! الدولة اللبنانية تاريخيا، وعلى كل الصعد، متخاذلة ومتقاعسة عن حماية لبنان من “إسرائيل”. والشعب جزء لا يستهان منه ضد المقاومة، بل جزء منه تعامل مع اسرائيل.

 

بالعودة لفلسطين، كيف تصف موقف السلطة الفلسطينية من حرب الإبادة في غزة؟

 

السلطة “الوطنية” الفلسطينية تتفوق على نفسها في الانحدار اليومي. كما أن شعار “الوحدة الفلسطينية” شعار يميني رجعي لإسكات المعارضة. “الوحدة الوطنية الفلسطينية” هي الشعار الصائب، وأساسها: تحرير كامل فلسطين بكل الوسائل، لا ربع فلسطين بالتنازل.

 

كلمة أخيرة

علينا ان نقتنع، بعد ما شهدناه من بطولة في كل أرجاء فلسطين، وبدعم أكيد من إخوة ورفاق وراء حدود فلسطين، بأننا قادرون قادرون على المطالبة، من دون أدنى “حياء” أو وجل، بتحرير كل ما احتلته “إسرائيل” وإزالة هذه الأخيرة من الوجود. سيأتي يوم وتذكّر فيه غزّة كلّ المستسلمين والمطبعين: أنها هزمت الحصار وصفقةَ القرن بسلاحها “البدائي” وعزيمتها الأسطورية، شأن كل المقاومات الشعبية التي انطلقت بطاقات فردية وأسلحة بدائية.

وفي لبنان، أذكر من نسي أو تناسى:

شهداءُ صبرا وشاتيلا مهّدوا لانطلاقة “جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة”. وشهداء قانا الأولى مهّدوا لاتفاق الرعب “مدنيّيكم مقابل مدنيّينا”، وشهداء حرب تموز فرضوا قوة ردع صمدت حوالي عقدين من الزمن، وسنرى ما سيصنع شهداء الحرب الجارية، وإنّ غدًا لناظرِه قريب.

آخر الأخبار