“الموسيقى يمكن، ويجب، أن تعيدَ وصلَ ما تمّ قطعُه، للأسف، من خلال تأليب الأطراف بعضِها على بعض”. بهذه الجملة يُختتم
ملصقٌ كبير، خُصّص للدعوة إلى حفلةٍ موسيقيّة، تحمل عنوان “حفلة السلام.” وهذه الحفلة يُفترض أن تجري في 9 من الشهر الجاري (تشرين الثاني) في برلين، وتجمع موسيقيين ومغنين من سوريا (وسيم مقداد وبيريفان أحمد)، والكيان الصهيونيّ (Omri Vitis وGuy Strier)، وألمانيا.
يطمئنُنا الملصقُ إلى أنّ السلام “لا يتعلّق بالخلفيّة الدينيّة [بين البشر]، بل بالثقافة والتعليم والموقف والحسِّ السليم” ــ ــ وكأنّ رافضي السلام مع المحتلّين ومع مهندسي المجازر معدومون من ذلك كلّه! ولكنْ، ألا يكفي أصحابَ “الثقافة والتعليم والموقف والحسّ السليم” أن يَعْلموا أنّ “اتفاقيّات السلام” منذ توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993 وما قبله لم يأتِ بأيّ سلام، بل ضاعف من أعمال القتل والتهجير والاستيطان والتهويد وسرقةِ المياه ونهبِ الأملاك والاعتداء على دولٍ عربيّة ذات سيادة؟
ويصوّر الملصقُ الصراعَ العربيّ ـ الإسرائيليّ وكأنّه محضُ “تأليبٍ” للأطراف بعضِها على بعض. لكنْ، هل هذا ما تقوله “الثقافةُ”، أو يُرشدنا إليه “التعليمُ والموقفُ والحسُّ السليم”؟ هل رفضُ التعاطي مع مكوّنات دولةٍ ارتكبتْ تطهيرًا عرقيًّا منذ تأسيسها عام 1948، واعتدت على لبنان وسوريا ومصر والعراق وتونس،… مجرّدُ رفضٍ “للتأليب”؟ أمْ هو سعيٌ حثيثٌ إلى فضح القاتل وعزلِه عن العالم، كما حدث مع نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا؟
خطابُ الملصق، إذًا، يَستخدم مصطلحاتٍ مستهلكة، تدغدع المشاعرَ السطحيّةَ في الناس، لكنّها بعيدةٌ كلَّ البعد عن التاريخ والثقافة والعلم. وبذلك، يروّج الملصقُ “سلامًا” بين القاتل والقتيل، مستخدمًا الموسيقى قاطرةً لقبول الاستسلام والإذعان، ولتبرئة القاتل من دم القتيل.
وهنا نسأل: هل من قبيل المصادفة وحدها أن يجري توقيتُ هذا الحفل في 9 تشرين الثاني (نوفمبر)، الذي يتزامن مع “ليلةَ
الزجاج المكسور” (Kristallnacht) سنة 1938، حين قام النازيون بتحطيم بيوت اليهود ومصالحِهم ومراكزِ عبادتهم، وعمدوا إلى ضرب المئات وقتلِ العشرات، في برلين وميونيخ بشكل خاصّ؟ أليس المقصود بهذا التوقيت المريب استخدامَ التطبيع الفنيّ مع الإسرائيليين لبث جوٍّ من التعاطف مع “أحفاد ضحايا النازيّة”؟
الجدير ذكرُه أنّ أومري فيتيس وُلد ونشأ في كيبوتس “داليا” في شمال فلسطين المحتلة، ثم سافر إلى لندن حيث قضى 16 عامًا، قبل أن “يعود” إلى فلسطين. وفي تل أبيب التقى غاي سترير. وهذا الأخير وُلد في آراد، جنوب فلسطين المحتلة؛ وبعد أن أنهى خدمتَه العسكريّة في الجيش الإسرائيليّ، انتقل إلى تل أبيب، وبات “عازفَ غيتار بارزًا في مشهد تل أبيب الموسيقيّ.”
والجديرُ ذكرُه أيضًا أنّ السوريّ وسيم مقداد عزف مع الفنّان الروسيّ ألكسي كوتشيتكوف، الذي سبق لحملة المقاطعة في لبنان أن كشفتْ أنّه كان جنديًّا في الجيش الإسرائيليّ من فئة “الجنود الوحيدين (أو المنفردين)” (lone soldiers)، أيْ الذين لا يملكون جذورًا عائليةً في الكيان الغاصب.
كما أنّ مقداد عضوٌ في “مشروع كايان”، وهو رباعيٌّ موسيقيٌّ يجمع سوريين وإسرائيليين، ويهدف (بحسب مزاعم هذا الرباعيّ) إلى “إيصال رسالة السلام والتنوّع”.
غير أنّ الرسالة الحقيقيّة، في “حفلات السلام” و”مشاريع السلام والتنوّع” هذه، هي محاولةُ إحداث فصلٍ وهميّ بين الفنّان الإسرائيليّ من جهة، والجنديّ الإسرائيليّ من جهة أخرى؛ فالفنّانان الإسرائيليّان سترير وكوتشيتكوف، كما أوضحنا، كلاهما خدم في “جيش الدفاع الإسرائيليّ”. والرسالة الحقيقيّة أيضًا، في هذه الحفلات والمشاريع، هي محاولةُ الفصل بين الفنّان الإسرائيليّ من جهة، و”الدولةِ” المجرمةِ التي ينتمي إليها من جهةٍ أخرى، مع أنّه يخدمها وتلمّع به (وبحضوره الفنّيّ) صورتَها، وهي بدورها تخدمه بمواردها وإمكانيّاتها ووجودِها نفسه على أرضٍ مسروقةٍ من شعبها الأصليّ.
إنّ حملة المقاطعة في لبنان تدعو أنصارَ فلسطين في ألمانيا، وجاليتَنا السوريّة والفلسطينيّة في برلين بشكلٍ خاصّ، إلى مقاطعة هذا الحفل، ومقاطعةِ كلّ نشاط يقوم به وسيم مقداد وبيريفان أحمد وأمثالُهما، حتى يتخلّوا ويعتذروا عن مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، وينسجموا مع التيار المتنامي لحركة المقاطعة العالميّة.
حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان
بيروت في 4/11/2018