الحريّة الأكاديمية، وإسرائيل، والمقاطعة

0

يُتّهم أنصارُ النداء الفلسطيني الداعي إلى مقاطعة إسرائيل ثقافيّاً وأكاديميّاً ـ وعلى رأس المتّهِمين اللوبي الإسرائيلي وحلفاؤه مثلُ الحكومة البريطانية ـ بالاعتداء على “الحرية الأكاديمية.” و”مجلسُ مندوبي اليهود البريطانيين،” وهو مجلسٌ اختار أن يَعتبر كلَّ اليهود أنصارًا أوتوماتيكيين لإسرائيل، هو اللوبي الأبرزُ في المملكة المتحدة، وأنشأ صندوقًا من مليون پاوند إنكليزي لتأمين الهجوم على المقاطعة. والحقّ أنّ الضغطَ على داعمي نداءات المقاطعة، أفرادًا ونقاباتٍ، وبغضّ النظر عن تواضع ذلك الدعم، كان وما يزال هائلاً. ومع ذلك، فإنّ المجلس المذكور يتعرّض للنقد من طرف المحامي في جامعة هافرد، الصهيوني الفائق، ألانْ درشويتز، لأنَّ المجلس في زعمه لم يَفْعلْ ما يكفي لمهاجمة المقاطعة!

 الحريةُ الأكاديميةُ لمن؟

من المهمّ أن نكون واضحين إزاء تعقيدات المطالبة البسيطة [الساذجة] بـ “الحرية الأكاديمية.” فالحرية الأكاديمية أكثرُ من محض أمرٍ مجرّد؛ إنّها مموضَعةٌ في سياقاتٍ اجتماعيةٍ محدّدة. إذ كيف يُمْكننا، كمجتمعٍ أكاديميّ، أن نُدافِعَ عن حرية كلّ زملائنا وحرية طلاّبهم، لا أن ندافعَ فقط عن الحرية الأكاديمية لمن يتمتّعون بالامتيازات أصلاً؟ كيف لنا أن نستجيبَ مطالبَ زملائنا، أساتذةِ الجامعات، بالتضامن معهم حين يُقْمعون بوحشيةٍ من قِبل قوةٍ محتلّةٍ تَزْعم ـ في الوقت نفسِه ـ أنها في مصاف الأمم الديموقراطية؟! في صيف 2007 مُنع منعًا اعتباطيّاً أحدُ طلاّبي الغزّاويين الذين يَدْرسون في جامعتِي برادفورد (إلى جانب 670 آخرين) من العودة إلى انكلترا للدراسة. فكيف، يا تُرى، سيُدافِع عنه المجتمعُ الأكاديميُّ العالمي؟
وقبلَ كلّ شيء، مع مَنْ ينبغي أن نتضامن؟ أَمَعَ زملائنا الفلسطينيين المقموعين؟ أمْ مع أكاديميي النظام الذي يَقْمعهم، والذي تضطلع جامعتُهم اضطلاعًا عميقًا في الإنتاج الكوني للمعرفة؟ ليس بين الجامعة الفلسطينية الأولى، جامعةِ بيرزيت، والجامعةِ النخبويةِ الإسرائيلية، الجامعةِ العِبرية في القدس، أكثرُ من 15 كيلومترًا، لكنّهما تَبْعدان واحدتهما عن الأخرى مسافةَ عامٍ كاملٍ بسبب حواجز التفتيش الإسرائيلية وجدارِ الفصل العنصري السيِّئ الصيت البالغ تسعةَ أمتار علوّاً. الأكاديميون الفلسطينيون من الضفة الغربية لا يستطيعون زيارةَ الجامعة العِبرية (المنتصبة على أرضٍ فلسطينيةٍ مغتصَبة بشكلٍ لاشرعيّ) لأنّهم لا يَمْلكون الهويةَ المطلوبة. ويَصْعب على أكاديميي جامعة بيرزيت المجيءُ إلى جامعة القدس في القدس الشرقية للتعليم، وغالبًا ما يُرْجَعون أدراجَهم اعتباطيّاً على حاجز قَلَنْدية الفاصلِ بين جامعتيْهم. لقد أعاد جنودُ جيش الدفاع الإسرائيلي أساتذةً “دون الأربعين” من عمرهم؛ أو رَفَضوا في مناسبة أخرى السماحَ لأستاذٍ مساعدٍ (assistant professor) بالمرور على أساسِ أنّه لا يُحتملُ أن يُحاضِر لكونه أستاذًا مساعدًا، في حين أنَّ تلك مهمةٌ لا يَقْدر عليها إلاّ الأساتذة ! (professors) والجديرُ ذكرُه أنّ الجدارَ الإسرائيلي يَخْترق قسمًا من حَرَمِ جامعة القدس.من حوارٍ شخصيّ مع أستاذٍ في جامعة بيرزيت.
إذنْ، يتوقّع المرءُ أن يحتجّ الأكاديميون الإسرائيليون على تقليص حرية زملائهم القريبين منهم، وعلى إغلاق الجامعات اعتباطيّاً في الحدّ الأقل. فقد أُغلقتْ بيرزيت بالقوة ثلاثَ سنوات، وواصل المحاضِرون تعليمَ طلاّبهم سرّاً مع أنّهم وطلاّبَهم كانوا عرضةً للتوقيف والاحتجاز في “الحجز الإداري” من دون تُهَم. رئيسُ جامعة بيرزيت خُطف من قِبل جيش الدفاع الإسرائيلي ورُحِّل إلى الأردن. التوقيفات تتواصل بشكلٍ روتينيّ. ومنذ مدة كان هناك 29 طالبًا من جامعة بيرزيت موقوفين من دون تُهم، تسعةٌ منهم مسجونون إلى أجلٍ غير محدّد بموجب قانون الانتداب البريطاني الذي ما زالت إسرائيلُ تَعْمل به. عددٌ من وزراء حكومة “حماس” أكاديميون، وسياسيون منتخَبون ديموقراطيّاً أيضًا، لكنّهم أُوقفوا هم كذلك وسُجنوا بشكلٍ اعتباطيّ.

الجامعات الإسرائيلية والحرية الأكاديمية
باستثناء حفنة من الشجعان الجهيري الصوت، ثمة صمتٌ مدوٍّ في أوساط الأكاديميين في الجامعة الإسرائيلية حيال الاعتداءات على الحرية الأكاديمية. ولقد كَتبت الراحلةُ تانيا رينهارت، وكانت أستاذةً مميّزةً في اللسانيات في جامعة تل أبيب ومنشقّةً إسرائيليةً بارزة، هجومًا متّقدًا بالحماس ضدّ هذا الصمت:
“لم يصادق المجلسُ الأعلى في أية جامعةٍ إسرائيلية في تاريخه على قرارٍ يحتجّ على الإغلاقات المتكرّرة للجامعات الفلسطينية، ناهيكم بالاحتجاج على التدمير هناك أثناء الانتفاضة الأخيرة… وإذا رَفضت الأكاديميا، في أوضاع متطرِّفة من الانتهاكات التي تطاول حقوقَ الإنسان والمبدأَ الأخلاقيّ، أن تَنتقدَ وأن تنحازَ، فإنّها بذلك تتعاون مع النظام القامع![i]
هذا الصمت، ولاسيّما عند مقارنته بالصراخ المزعج إزاء أيّ تلميحٍ إلى تهديدٍ ينال حريةَ هؤلاء الأساتذة الأكاديمية بالذات، يمثِّل معيارًا مزدوجًا شنيعًا. إنّ ما يسجَّلُ لمقاطعةِ إسرائيل أكاديميّاً هو أنّها لا تكتفي بتحدّي سياسات الحكومة الإسرائيلية فقط، بل تَلْفت الانتباهَ أيضًا إلى تواطؤ الجامعات نفسِها. دائمًا يُخْبروننا بأنّ الجامعات الإسرائيلية هي أحدُ المصادر الرئيسة لنقد الحكومة ومعارضتها؛ ولكنْ على الرغم من الجهود البطولية لقلّةٍ قليلةٍ جدّاً، فإنّ أكثرَ ما يُمْكن سماعُه ـ على ما أَعلنتْ تانيا رينهارت ـ هو صمتُ الأكاديميا الإسرائيلية! إنّ الجامعات الإسرائيلية، بعيدًا من أن تكون معاقلَ للنقد الموجّه إلى سياسة الحكومة، تُؤْوي منشقّين قلائلَ، إلا أنّها تميل [مع ذلك] إلى مضايقتهم.
يشير أستاذُ الجغرافيا في جامعة حيفا البروفسور آرنون سوفِرْ إلى “المشكلة الديموغرافية،” ويحاجج في مقابلة صحافية بما يأتي: “إذ كنّا نريد أن نبقى على قيد الحياة، فإنّ علينا أن نَقْتلَ ونَقْتلَ ونَقْتل، كلَّ اليوم، وكلَّ يومٍ. إنْ لم نَقْتلْ، فسنتوقّف عن الوجود. إنّ الأمر الوحيدَ الذي يهمّني هو كيف نَضْمن أنّ الصبيانَ والرجالَ [اليهودَ] الذين سيَقتلون سيكون في مقدورهم أن يعودوا إلى البيت إلى عائلتهم ويكونوا بشرًا طبيعيين[ii]ويزعم سوفر أيضًا أنّه المهندس الثقافي لجدارِ الفصل العنصري مثلُ هذا الاقتراح في بريطانيا يقع تحت بند الخطاب العنصري والتحريضِ على العنف، ويتعرّض [صاحبُه] للملاحقة. وقد تماشت دعوةُ سوفر مع مؤتمر جامعة حيفا الذي يناقش “المشكلةَ الديموغرافية،” وهذه ركّزتْ على معدّل الولادة التفاضلي بين الإسرائيليين الفلسطينيين واليهود، مع هدفٍ سياسي يقضي بضمان غالبيةٍ يهوديةٍ دائمةٍ في إسرائيل. وأنْ يَحدث مثلُ هذا النشاط في أيّ حرم جامعي ويُسْتَبْعدَ منه الأكاديميون الفلسطينيون فهذا أمرٌ يشير إلى مشكلةٍ أعمّ تتمثّل في معاملة الجامعات الإسرائيلية وكأنّها على طلاقٍ مع مصالح النظام وسياساته.
بعضُ الأكاديميين، أمثال سوفر، يروِّجون بنشاطٍ لسياساتٍ حكوميةٍ غيرِ شرعية بموجب القانون الدولي؛ فهو مثلاً يعتبر نفسَه “مهندسَ” الجدار، الذي قَضَتْ محكمةُ العدل الدولية بلاشرعيّته. ولقد أشار أكاديميون في جامعة حيفا، مثل المؤرِّخ الجديد إيلان پاپيه، إلى أنّ جامعة حيفا تعامِل طلاّبَها العربَ كمواطنين من الدرجة الثانية. وفي آب (أغسطس) 2007، شَبَكَ سبعةُ طلاّب إسرائيليين، عربًا ويهودًا، أيديَ بعضهم بعضًا، وغَطّوا أفواهَهم بشريطٍ لاصق، في احتجاجٍ صامتٍ على الملاحظات العنصرية التي أدلى بها الناطقُ باسم اتّحاد الطلبة. فتمّ توقيفُهم واتُّهموا بـ “إثارة الاضطراب” وبـ “التصرُّف الهائج!” وحين قَضَتْ محكمةٌ تأديبيةٌ ببراءتهم، أَعلنت الجامعةُ نيّتها استئنافَ الدعوى.[iii] أما جامعةُ بارـ إيلان فعزَّزتْ من عمل “كليّة يهودا والسامرة” اللاشرعية على مستوطنة آرييل اللاشرعية في الضفة الغربية المحتلّة لاشرعيّاً؛ وكان ذلك قبل أن تَقطع بار ـ إيلان ارتباطاتِها تلك إثر قرارات المقاطعة التي جُوبهتْ بها لكون تلك الارتباطات مناقضةً مسبّقًا لتوجيهات الاتحاد الأوروبي التي تَمْنع التعاملَ مع المستوطنات اللاشرعية.

اللوبي الإسرائيلي والمقاطعة
في هذه الأثناء كانت الضجّةُ حول المقاطعة الأكاديمية، وحول نقاشٍ بالغِ التجريد عن “الحرية الأكاديمية،” قد طَمست المقاطعةَ الشاملةَ التي فَرَضتْها حكوماتٌ على بلدانٍ بأكملها. فالولايات المتحدة، مدعومةً بإسرائيل داخل الأمم المتحدة، كانت نشيطةً بشكل خاصّ في مقاطعتها لكوبا. كما دعا بنيامين ناتانياهو إلى مقاطعةٍ شاملةٍ لإيران.[iv] وتتجاهل المقاطعةُ الأميركية ـ الأوروبية للسلطة الفلسطينية بقيادة حركة حماس الانتخاباتِ الديموقراطيةَ التي جَرَتْ في ظلّ رقابةٍ عالمية؛ كما تتجاهل معاناةَ الشعب الفلسطيني الناجمة عن تلك المقاطعة، وتتجاهل الأطفالَ الفلسطينيين الذين يعانون سوءَ تغذية، ومعدَّلَ الوفَيَات المريع الناتج من ذلك، فضلاً عن الجامعات والمدارس الفلسطينية المجوَّعةِ ماديّاً. ومن الواضح أنّ سجلَّ كثيرٍ ممّن يُدافعون بحميّةٍ عن الحرية الأكاديمية للجامعات الإسرائيلية أقلُّ من أن يكون متَّسِقًا [أخلاقيّاً]. إذنْ، لماذا يجري مثلُ هذا الشجب، المُغالَى فيه، لاقتراح مقاطعة إسرائيل؛ ذلك الشجبِ الذي بدأه اللوبي الإسرائيلي العالمي ذو التنظيم الجبّار والتمويل الهائل؟[v]

باستمرارٍ تسعى إسرائيلُ واللوبي المناصِرُ لها إلى إزاحة إسرائيل عن هدف النقد، وإلى إعادة تركيز النقاش على خطابٍ مجرّدٍ خالٍ من السياق عنوانُه “الحريةُ الأكاديمية.” وبموجب هذا الخطاب يختفي الاحتلالُ الإسرائيلي اللاشرعي، والقمعُ العسكري الإسرائيلي، والمعاناةُ الحقيقيةُ جدّاً ـ ماديّاً ونفسيّاً ـ التي يقاسيها الشعبُ الفلسطيني. وهذا الدافِع، الذي تحفِّزهُ عواملُ إيديولوجيةٌ وسياسيةٌ، إلى المنافحة عن إسرائيل وجامعاتِها، ظالمةً أو مظلومةً، دافعٌ قويٌّ في الأوساط اليمينية بشكلٍ خاصّ، ولكنّه منتشرٌ أيضًا، وبشكلٍ مزعج، على امتداد الطيْف السياسي الإسرائيلي، واستطاع أن يستمدّ قوةً من خلال تجنيد خطابٍ مجرّدٍ عنوانُه “الحريةُ الأكاديمية.”
ولقد كان ردُّ الفعل [الإسرائيلي والمؤيِّدُ لإسرائيل] من التطرُّف بمكانٍ بحيث تعرَّض الأفرادُ الموقِّعون على نداء المقاطعة لحملةٍ منهجيةٍ من المضايقات عبر البريد الإلكتروني ـ وكُلُّها غُفْلٌ من التوقيع، وبذيئةٌ، وإباحيةٌ في الغالب ـ فضلاً عن الرسائل التي وُجّهتْ إلى أرباب عملهم تدعوهم فيها إلى ضَبْطِ [موظّفيهم]. هذا لا يعني طبعًا أن نضَعَ التهديداتِ والطعونَ الموجَّهةَ إلى أنصار المقاطعة على قدم المساواة مع الوحشية اليوميةِ الموزّعةِ على الفلسطينيين. إلا أنّ المعادين الجهورين للمقاطعة هم تحديدًا الساعون إلى كَبْتِ أيّ نقاشٍ حولها، على ما أشارت إلى ذلك فيونا غودلي في افتتاحية في المجلة الطبيّة البريطانية بعد أن نَشَرتْ هذه المجلةُ مقالتيْن: واحدةً مع المقاطعة وأخرى ضدّها، وبعد أن أجرتِ استطلاعَ رأيٍ في وسط قرّائها.[vi]

وحين نَظّمت “الجمعيةُ الأميركيةُ لأساتذة الجامعات،” وهي معاديةٌ للمقاطعة كذلك، مؤتمرًا يَشْمل متحّدثين مناصرين ومعادين للمقاطعة، وكان يُزْمَعُ عقدُه في إيطاليا في كانون الثاني (يناير) 2006، مارس اللوبي الإسرائيلي من الضغط على المؤسّسات المانحة ما دَفَعها إلى سحب دعمها المالي في اللحظة الأخيرة. وحين اقترحت الجمعيةُ نفسُها نَشْرَ أوراق السجال، بما فيها ما كتبه أنصارُ المقاطعة ومعارضوها في المؤتمر المُلغَى، رَفَضَ معادو المقاطعة الصهاينةُ السماحَ بنشر إبحاثهم.[vii] وفي تباينٍ كان سيبدو مضحكًا لو لم يكن جزءًا لا يتجزّأ من محاولةِ لعبِ ورقةٍ مألوفةٍ عنوانُها “إسرائيلُ في وصفها ضحيّةً،” نَظّمتْ جامعةُ بار ـ إيلان في إسرائيل (بسبب نقدٍ حادّ تعرّضتْ له جرّاءَ دعمِها امتدادًا لاشرعيّاً لها في مستوطنة آرييل) مؤتمرًا خاصّاً بها عن الحرية الأكاديمية. ومع أنّ المؤتمر يوصف في دعوة المنظّمين بأنّه “سجالٌ” (debate) حول المقاطعة، فقد اختاروا دعوةَ معارضي المقاطعة وحدهم![viii] واضحٌ، إذنْ، أنّ مجردَ الاستماع إلى الحجج المعارضة لم يكن منسجمًا مع التوليفة العبثية المسمّاة “حرية أكاديمية.”
إنّ هذا المعيارَ المزدوجَ المذهل، الذي يُصرُّ على استثنائية إسرائيل، يتمّ دعمُه عمليّاً من طرف حكوماتٍ غربيةٍ كثيرة، ولاسيّما حكومةُ الولايات المتحدة طبعًا، ولكنْ من طرف دولٍ أوروبية عديدة أيضًا. لاحِظوا رفضَ تلك الحكومات الصامتَ لفرضِ ما يتوجّب عليها فرضُه، بمقتضى القانون الدولي، وأعني قراراتِ محكمة العدل الدولية. إنّ رفضَ الحكومات الاستجابةَ للقانون الدولي، ورفضها العملَ على الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الإنسانية، هو ما أدّى، جزئيّاً، إلى أن يوجِّه المجتمعُ المدنيُّ الفلسطيني نداءً إلى المجتمع المدني العالمي من أجل مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها (م. س. ع).

من التعليق إلى المقاطعة
على امتداد العقد السابق، وبسبب تكثيف الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والعقوبات الجماعية، وهدمِ المنازل، والاغتيالاتِ الموجَّهة، وبناء “جدار الفصل” قبل أعوام، باتت غالبيةُ المواطنين الأوروبيين قلقةً قلقًا عميقًا إزاء السياسات الإسرائيلية. وقد أَوردتْ دراسةٌ لـ “يوروبارومتر” عامَ 2003 أنّ 59% من المستَطْلَعين اعتبروا إسرائيلَ الخطرَ الأعظمَ على السِّلْم العالمي. ويتحدّى تقريرٌ لمنظّمة العفو الدولية، يوثِّق انتهاكاتِ إسرائيل لحقوق الإنسان، إدخالَ إسرائيل في اتفاقياتٍ تجاريةٍ مع أوروبا وفي “منطقة الأبحاث الأوروبية”(European Research Area) . فالحال أنّ الدفاع عن حقوق الإنسان يُفترض أن يكون شرطًا مسبَّقًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عضوًا أو شريكًا في التجارة أو الأبحاث. وكان هذا ما عَجَّل رسالةً، وقَّعها بضعُ مئات من الأكاديميين الأوروبيين، تحثّ على تعليق تمويل الاتحاد الأوروبي للتعاون البحثي مع إسرائيل.[ix] وردّاً على ذلك، بَعَثَ رئيسُ جامعة بيرزيت حنّا ناصر رسالةَ شكرٍ مختصرةً، ولكنّها لاذعةٌ، يقول فيها: “كنّا نظنّ أنّ أوروبا نسيتْنا!”
في أواخر ذلك العام تمّ تبنّي اقتراح تعليق التمويل الأوروبي لإسرائيل، وذلك في قرارٍ صَدَرَ عن النقابة الأكاديمية الأبرز في المملكة المتحدة. عددٌ من الجامعات الفرنسية، وبخاصةٍ جامعة باريس 4، أصدر نداءً أقوىنُشر الموقفُ على موقعwww.pipo.org لكنّ الخدمة توقّفت الآن. ويمكن العثورُ على الموقف نفسه على:www.Europalestine.com/article.php3?id_articles=1727consulted 20.07.06 أثار ردّةً صهيونيةً عاتيةً جَعَلتْ من كلّ نقدٍ لإسرائيل ما باتَ تهمةً روتينيةً: إنّه، تعريفًا، معادٍ للسامية! وفي تموز (يوليو) 2004 أَصدرت الحملةُ الفلسطينيةُ من أجل المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) بيانًا، صادقتْ عليه كلُّ نقابات الجامعات والمنظّمات غير الحكومية في الضفة الغربية، من أجل مقاطعة إسرائيل مقاطعةً شاملة.[x],[xi]
تَعْمل اللجنةُ البريطانيةُ من أجل جامعات فلسطين (BRICUP)، التي أُنشئتْ استجابةً للنداء أعلاه،[xii] على الضغط على الاتحاد الأوروبي وحكومةِ المملكة المتحدة لاستبعاد إسرائيل من “منطقة الأبحاث الأوروبية،” ولتطوير سياساتٍ تشجِّع الأكاديميين الأفرادَ على فكِّ ارتباطاتهم المهنية بإسرائيل عبر نشاطاتٍ من قبيل: رفضِ التعاون البحثي مع المؤسّسات الإسرائيلية، ورفضِ ممارسة التحكيم لأوراق أو طلبات مِنَحٍ قادمةٍ من تلك المؤسّسات، ورفضِ حضور مؤتمراتٍ أكاديمية في إسرائيل. وفي المؤتمر الأول لـ “اتّحاد الجامعات والكليات” الجديد في أيار (مايو) 2007، صودِق على اقتراح التعليق بشكلٍ ساحق، وتمّ إمرارُ قرارٍ معتدلٍ من طرف غالبيةٍ كبيرةٍ يَطْلب من الاتّحاد المذكور دعوةَ نقابيين أكاديميين فلسطينيين إلى اجتماعاتٍ محلّية يَعْقدها الاتحادُ من أجل مناقشة “نداء” مقاطعة إسرائيل. وأثناء التحضير الجاري بقوةٍ لهذه الجولة، وبعد أن وُجّهت الدعوةُ إلى الأكاديميين الفلسطينيين، أَعلنتْ رئيسةُ الاتحاد أنّها تلقّت رأيًا قانونيّاً يفيد بأنّ مصادقةَ الاتحاد على المقاطعة ستكون غيرَ شرعية، فأُلغيت الجولة!الجدير ذكرُهُ أنّ الاتحاد المذكور عاد ونظّم جولةَ الأكاديميين الفلسطينيين في حوالى 20 جامعة بريطانية بعد كتابة هذا المقال بأسابيع ـ وهو ما شكّل انتصارًا آخرَ لأنصار المقاطعة. (عمر البرغوثي). والحقّ أنّ المضامين القانونية والسياسية لذلك الرأي مثيرةٌ للجدال، وهي تَخْضع حاليّاً للتحدّي القويّ، ولاسيّما أنّ الاتحادات في المملكة المتحدة تَمْلك سجلاً طويلاً ومشرِّفًا في قرارات التضامن الدولي مع نداءات المقاطعة. ولكنْ لمّا كانت المقاطعةُ في النهاية خيارًا فرديّاً وأخلاقيّاً، فإنّ تبنّي الاتحاد لها، على كونه مهمّاً من الناحية الرمزية، ليس بأمرٍ بالغِ الأهمية.

المقاطعتان الاقتصادية والأكاديمية: مختلفتان أمْ متشابهتان؟
بعضُ معارضي المقاطعة الأكاديمية حاججوا بأنّها مختلفةٌ من حيث النوع عن المقاطعة الاقتصادية، وأنّ على الشؤون الأكاديمية أن تُفْصَلَ عن النشاط الاقتصادي الخاصّ بالصناعة والتصنيع. وبحسب هذه المحاججة، فإنّ النشاطات الأكاديمية التي تقوم بها مثلاً آرييل وبار ـ إيلان منفصلةٌ عن اقتصاد إسرائيل النيوليبرالي، وأنّ ما تُنتجانه إنّما هو خارج العملية الاقتصادية. غير أنّ هذه الفصل يسعى إلى حجب التغيّرات الأساسية التي حدثتْ وتَحْدث في نظام إنتاج المعرفة كجزءٍ من العولمة. ففي حين كان يُمْكن (ربّما) الفصلُ بين العلم والتكنولوجيا، فإنّ هذا الفصلَ في الاقتصاد المعولم لم يعد ممكنًا، وبخاصةٍ في مجالَي المعلوماتية والتكنولوجيا البيولوجية، وهما أكثرُ القطاعات البحثية ديناميكيةً وتسويقًا. فالحال أنّ هذيْن القطاعيْن يتلقّيان تمويلاً متزايدًا من المصانع والجيش، وهما جزءٌ لا يتجزّأ من الاقتصاد النيوليبرالي المعولم. ومصطلح “المِلْكية الفكرية” هو المصطلحُ الذي يَرْبط، وبكلّ وحشيّة، الأكاديميَّ بالاقتصاديّ. وهو يُطارد جامعاتِ العالم ويقلِّل يوميّاً من استقلاليّتها، ويقلّل أيضًا من ادّعاء “الحرية الأكاديمية.” وإنّ المحاولة الضّاجّة التي تقوم بها الجامعاتُ الإسرائيليةُ للزّعم بأنّها ليست جزءًا من هذا الاقتصاد السياسي المعولم ومن آثاره في الأنظمة الجامعية، في حين تبيِّن نجاحاتُها التقنيةُ والتجاريةُ أنّها جزءٌ من ذلك فعلاً، تُتاخم “المَسْخرةَ.”
إنّه تحديدًا في سياق اقتصاد المعرفة اليومَ، لا في عالمٍ مجرّدٍ ما، يُصبح من غير الممكن الفَصلُ الذي يَرْغب البعضُ في إقامته بين مقاطعةٍ اقتصاديةٍ يمكن أن تكون مقبولةً ومقاطعةٍ أكاديميةٍ غيرِ مقبولة. وبالنسبة إلى بلدٍ كإسرائيل، حيث الجامعاتُ مركزيةٌ بالنسبة إلى موقعه في السوق العالمية، وبخاصةٍ في مجالَي المعلوماتية والتكنولوجيا البيولوجية، فإنّ مقاطعة عالميةً لهذا البلد لن تؤثِّر في الجامعات وحدَها بل في الاقتصادِ نفسِه. إنّ الاقتصاد الإسرائيلي مشوَّه بسبب مصاريفه الهائلة على المستوطنات اللاشرعية، والطرقِ اللاشرعية، والجدارِ اللاشرعي، والاحتلالِ العسكري اللاشرعي نفسِه طبعًا. وعليه، فإنّ فقراء إسرائيل ليسوا وحدهم مَنْ سيشعرون بالقَرْصة [في حال فرض المقاطعة]، بل ستَشْعر بها أيضًا الجامعاتُ نفسُها، المموّلةُ جيّدًا إلى الآن.

من المقاطعة إلى سحب الاستثمارات وفَرْضِ العقوبات
إنّ المقاطعة، على ما أشار نلسون مانديلا، تكتيكٌ في النضال السياسي. وقد تكونُ، أو لا تكونُ، ملائمةً أو فعّالةً؛ فهذا يتوقّف على الظروف المعيّنة. في حالة جنوب أفريقيا لم تكن المقاطعةُ الأكاديميةُ بل المقاطعةُ الرياضيةُ للأپارتهايد هي التي قَبَضَ عليها الإعلامُ، فَرَفع بذلك الوعيَ الجماهيريّ إلى مستوًى دراماتيكيّ، ومن ثم زادَ الضغطَ باتجاه العقوبات على جنوب أفريقيا. والحقّ أنّ القلق الذي تَشْعر به الدولةُ الإسرائيليةُ [إزاء أثر المقاطعة المحتمل] في مراكز معرفتها وتعليمها العزيزةِ على قلبها يَظْهر في أنّ إدارات الجامعات الإسرائيلية لم تكن هي وحدها التي تحرّكتْ لقلب قرارات “اتّحاد الجامعات والكليّات” في المملكة المتحدة، بل إنّ حكومة الليكود نفسَها تحرّكتْ لإنشاء لجنةٍ معاديةٍ للمقاطعة برئاسة بنيامين ناتانياهو! وحين تتدخّل الحكومةُ الإسرائيليةُ بهذه الطريقة، فهذا يُظْهر بوضوحٍ أنّ المسائل المطروحة سياسيةٌ بقدْرِ ما هي أكاديميةٌ واقتصادية، ويُظهر أنّ الحكومةَ والجامعات متورّطةٌ معًا في اتفاقٍ لا يمكن قبولُه في النهاية. إنّ مقاطعةَ إسرائيل هي، في جزءٍ أساسٍ منها، تعبيرٌ عن يأس المجتمع المدني العالمي وغضبِه، بما في ذلك الأكاديميون، إزاء فشل حكوماتنا والاتحادِ الأوروبي في المساعدة على الضغط على إسرائيل من أجل التفاوض مع الفلسطينيين على بناءِ سلامٍ عادل.
إذنْ، بعد ذلك كلّه، أين تندرج المقاطعةُ الأكاديمية، وما هو حظُّ هذا التكتيك من النجاح؟ صحيح أنّ وسائلَ الإعلام العالمية، من جريدة نيويورك تايمز إلى قناة الجزيرة ومواقعَ إلكترونيةٍ لا تُحصى، ركّزتْ على المقاطعة الأكاديمية، ولاسيّما على النضال داخل “اتحاد الجامعات والكليّات” البريطانية، إلا أنّ هذا النضال الخاصّ ليس إلاّ لحظةً في حركةٍ متعاظمةٍ من الدعم الدولي لقضية الفلسطينيين العادلة. ذلك أنّ الصورة الكبرى لا تقتصر على المقاطعة الأكاديمية وحدها، ولا على النضال داخل نقابةٍ أكاديميةٍ واحدة، بل تتعدّى ذلك إلى مقاطعة المتبضِّعين للأعشاب الإسرائيلية، وإلى توأمةِ الجاليات واتحادات الطلبة مع القرى واتحادات الطلبة في فلسطين، وإلى المقاطعة التي يمارسها الموسيقيون والكتّابُ وصُنّاعُ الأفلام، وإلى سعي الأطبّاء إلى طردِ إسرائيل من “الجمعية الطبية العالمية” ـ وكلُّ ذلك، فضلاً عن أشكال تعبير التضامن الأخرى، يبني الآن حركةَ تضامنٍ عالميةً هائلةً. إنّ المقاطعة، إلى جانب سحب الاستثمارات وفرضِ العقوبات في النهاية، هي شكلٌ لاعنفيٌّ، ولكنّّه جبّارٌ، من أشكال النضال. وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (م.س.ع) تَدْعم، بشكلٍ مهمّ، المجتمعَ المدنيّ الفلسطيني الذي حَطّمه الاحتلالُ الإسرائيلي منذ زمنٍ ولكنّه لم يَهْزمْه. وعلى المجتمع المدني الفلسطيني والمجتمع المدني العالمي دورٌ مهمّ في الجهدِ المديد من أجل ضمانِ سلامٍ عادلٍ في فلسطين/إسرائيل.

هيلاي روز Hillary Rose
* رئيسة مشاركة للجنة البريطانية لجامعات فلسطين (BRICUP)

آخر الأخبار