سنةَ 2004 قامت “الحملةُ الفلسطينيةُ للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل“(PACBI)، وبتأييدٍ من حوالى 60 من أبرز الروابط والاتّحادات النقابية على الصُّعُد الأكاديمية والثقافية والمهنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة [عامَ 67]، بإصدار نداء إلى الزملاء في المجتمع الدولي. وقد دعا النداءُ إلى مقاطعةٍ شاملةٍ وثابتةٍ لكلّ المؤسّسات الأكاديمية والثقافية الإسرائيلية، إسهامًا في النضال من أجل إنهاء الاحتلال والأپارتهايد والكولونيالية الإسرائيلية. وفي أوائل العام 2007 كَرّرتْ 18 منظمةً فلسطينيةً بارزةً في ميدان الصحّة النداءَ نفسَه.
ما هو الدور الذي تلعبه مهنةُ الطبّ الإسرائيلي، ولاسيّما قياداتها في “الجمعية الطبّية الإسرائيلية”؟ البعد الأول الذي ينبغي وضعُه في الاعتبار يتعلّق باستخدام إسرائيل للتعذيب، وهو ما بَيّنتْ منظمةُ العفو الدولية (Amnesty International) وعددٌ وافرٌ من المنظّمات الدولية والإقليمية المُعْتَبَرة المعنيّةِ بحقوق الإنسان أنّه تعذيبٌ تَمَأسَسَ منذ زمنٍ بعيدٍ في غُرَفِ الاستجواب التي تتعامل مع أعدادٍ كبيرةٍ من المحتجَزين الفلسطينيين كلَّ عام. وفي سنة 1996 خَلصتْ منظمةُ العفو الدولية إلى أنّ الأطبّاء الإسرائيليين العاملين مع أجهزة الأمن الإسرائيلية “يشكِّلون جزءًا من نظامٍ يُعذَّب بموجبه المحتَجَزون وتُساء معاملتُهم ويُهانون بطرقٍ تضع الممارسةَ الطبّيةَ في السجن على تضارُب مع الأخلاقيات الطبّية.” وبالفعل فإنّه ظَهَرَ إلى النور عامَ 1993 طلبٌ ينبغي على الأطبّاء الإسرائيليين في مراكز الاحتجاز أن يَمْلأوه، واسمُه “طلب الصلاحيّة“(Fitness Form) وكان هذا الطلب شهادةً طبيّةً تهيِّئ المحتجَزَ للاستجواب، المترافِقِ مع التعذيب. وكانت منظمةُ العفو، وكلُّ مَنْ يتقدّم إلى “الجمعية الطبّية الإسرائيلية” لحثّها على اتّخاذ موقفٍ من المسألة، يُواجَهان بالصَّدّ على امتداد سنواتٍ كثيرة. اللافتُ للنظر أنّ رئيس الجمعية، القديم المنصب، د. يورام بلاشار (Yoram Blachar)، وردّاً على ورقةٍ لي في الموضوع نَشَرَتْها مجلةُ لانست الطبّية العالمية، برَّر استخدامَ “الضغط الجسدي المعتدل” أثناء الاستجوابات. والحقّ أنّه ليس ممّا يَحْدث في الغالب أن يَسْتخدم رئيسُ جمعية طبّيةٍ مجلةً طبّيةً للدفاع عن ممارساتٍ تَعْتبرها “اللجنةُ المعاديةُ للتعذيب” في الأمم المتحدة تعذيبًا!
إنّ الموقفَ الأخلاقي والخطَّ الاستراتيجي، اللذين اتّخذتْهما الجمعيةُ المذكورةُ طوال أعوام كثيرة، قد التقطتهما ملاحظةٌ أدلى بها الپروفسور إيران دوليف (Eran Dolev)، الذي كان “رئيسَ قسم الأخلاقيات” (نعم، الأخلاقيات!)، وذلك في مقابلةٍ عام 1999 مع وفدٍ زائرٍ من “المؤسّسة الطبّية لرعاية ضحايا التعذيب” في لندن (وكنتُ رئيسَ الأطبّاء النفسيين فيها تسعةَ أعوام). فقد أكّد البروفسور دوليف أنّ المعلومات التي قد تتمخّض عن “بضع أصابع مكسورة” أثناء استجواب الفلسطينيين تستحقّ العناءَ من أجل الحصول عليها! وحين نَشرتُ ذلك في مجلة جمعية الطبّ الملكية، مُثْبتًا إيّاه بمَنْ شَهِدوا تلك المقابلةَ، قام د. بلاشار بالدفاع عن البروفسور دوليف!
قبل سنتين من ذلك كنتُ قد كتبتُ إلى البروفسور دوليف، عقبَ مؤتمر عن حقوق الإنسان عُقد في غزّة. فقد أخبرتْني طبيبةٌ إسرائيليةٌ أنّ طبيبًا زميلاً أقرّ أمامها بأنّه نَزَعَ أنبوبَ التقطير من ذراع سجين فلسطيني يعاني المرضَ على نحوٍ خطير، وقال له إنّ عليه أن يتعاون مع المحقّقين إنْ هو رغب في الحياة. طلبتُ إلى دوليف أن يتحقّق من الأمر، لكنّه لم يُجب.
ولم يتغيّر شيء (منذ ذلك الحين). ففي نيسان (أبريل) 2007، أكّد مركزُ بتسيلم، وهو مركزٌ إسرائيليّ يُعنى بتوثيق وضع حقوق الإنسان، أنّ كلّ المحتجَزين الفلسطينيين تقريبًا يعانون انتهاكاتٍ عقليةً وجسديةً تبلغ حدّ التعذيب؛ واستَشْهد المركزُ على ذلك بشهادات 73 رجلاً جُمعتْ بين تموز (يوليو) 2005 وكانون الثاني (يناير) 2006. لكنّ جمعيةَ الأطبّاء الإسرائيليين تلتزم الصمتَ، كالعادة!
وحين نَشَرتْ طبيبةٌ نفسانيةٌ إسرائيلية، هي الدكتورة روحاما مارتون (Ruchama Marton)، أنباءً تتحدّث عن الدور غير الأخلاقي الذي كان زملاؤها الأطبّاء الإسرائيليون يلعبونه في مراكز الاحتجاز، بتسميتهم محتجَزين فلسطينيين يعانون أمراضًا عقليةً خطيرةً بـ “المُتمارضين،” وبحرمانهم العلاجَ، اتّهمتها الجمعيةُ الطبّية الإسرائيلية بالافتراء، بدلاً من أن تُجري تحقيقًا في الادّعاءات.
التهمةُ الأساسيةُ الثانية تتعلّق بالمسائل الأخلاقية لدى الأطبّاء الإسرائيليين في ضوء تصرُّف الجيش الإسرائيلي حيال الجمهور الفلسطيني عامةً. فجيشُ الدفاع الإسرائيلي يعمل في مناخ من العصْمة الكاملة تقريبًا، وبقوةٍ غير متكافئة يصبّها على السكّان المدنيين، الأمرُ الذي أدّى إلى مقتل أكثر من 4000 فلسطيني خلال السنوات الستّ الأخيرة، بمن فيهم حوالى 850 طفلاً. إنّ هذه الأرقام صادمةٌ حقّاً، وترتفع باستمرار. وإنّ الشهادات التي نُشرتْ قبل مدّة قريبة عن مجموعة “كَسْر الصمت،” التي تضمّ جنودًا إسرائيليين سابقين، تَشْهد على سياسات “أَطْلِقِ النارَ لتَقْتل،” وهي سياساتٌ تكذِّب الشعاراتِ الرسميةَ الإسرائيليةَ عن “تقليل المخاطر” على المدنيين.
ويعزِّز كمٌّ هائلٌ حقيقيٌّ من الوثائق الانتهاكاتِ المنهجيةَ والمتواصلة لتلك الأقسام من وثيقة جنيف الرابعة التي تَضْمن للسكّان المدنيين في منطقةِ النزاعِ الحصولَ (من دون عوائق) على الخدمات اللازمة للحياة، بما في ذلك الخدماتُ الصحيّة. وتَشْمل الوثائق ما أورده كلٌّ من: منظّمة العفو الدولية (أكثر من 50 تقريرًا منذ أيلول 2000)، وهيومان رايتس واتش، وبرنامج الغذاء العالمي، والصليب الأحمر، واليونيسيف، ووكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة الصحّة العالمية، وأطبّاء من أجل حقوق الإنسان (منظّمة إسرائيلية)، وبتسيلم (منظّمة إسرائيلية)، ومؤسّسة الصحّة والتنمية والمعلومات (منظّمة فلسطينية)، والمجلس الاجتماعي الاقتصادي التابع للأمم المتحدة، فضلاً عن مقرِّرين متعدِّدين، ووكالاتِ غوثٍ مثل “أطبّاء بلا حدود.”
منذ العام 2000، هناك حوالى 100 فلسطيني من المولودين حديثًا والمَرْضى بشكلٍ خطير تُوفُّوا على حواجز الجيش الإسرائيلي لأنّهم مُنِعوا من الوصول إلى المستشفيات. وعاملون فلسطينيون محترفون في مجال الصحّة قُتِلوا بالرصاص أو جُرِحوا أثناء تأدية مهامّهم. سائقو سيّارات الإسعاف يَخْضعون للاستجواب، والتفتيشِ، والتهديدِ، والإهانةِ، والاعتداء. جرحى أُخرجوا من سيّارات الإسعاف أمام الحواجز الإسرائيلية واقتيدوا مباشرةً إلى السجن، وقام الجنودُ الإسرائيليون في مناسباتٍ أخرى باستخدام سيّارات الإسعاف وسائلَ نقل. سيّاراتُ إسعاف تُظْهر معالمُها بوضوحٍ أنّها تابعة لجميعة الهلال الأحمر الفلسطيني، وعياداتٌ طبيةٌ أيضًا، تمّ استهدافُها تكرارًا بنيران جيش الدفاع الإسرائيلي. جمعيةُ الصليب الأحمر الدولي وغيرُها من وكالات الغوث أُجْبرتْ أحيانًا على الحدّ من عملها في الضفّة الغربية بسبب تهديداتٍ وجّهها الجيشُ المذكور إلى موظّفيها وبسبب اعتداءاته على مَرْكباتها. وثمة تعويقٌ مقصودٌ لتوزيع المعونات الغذائية، التي يَعْتمد عليها نصفُ مليون فلسطيني اليوم. هذا وقد كَشفتْ دراسةٌ قامت بها جامعةُ جونز هوپكنز وجامعةُ القدس أنّ 20% من الأطفال الفلسطينيين ما دون الخامسة يعانون فَقْرَ الدم، و22% يعانون سوءَ التغذية. كما دَمّر جيشُ الدفاع الإسرائيلي، عَمْدًا، مصادرَ الماء، والطاقةِ الكهربائية، ومكوِّناتٍ أخرى من البنى التحتية الخاصة بالصحّة العامة في غزّة؛ ومنَعَ وصولَ موادّ طبيّة أساسية مثل الأدوية ضدّ السرطان والسوائل المستخدمة لغسيل الكِلى. ثم إنّ مواصلةَ بناء جدار الفصل العنصري والسياج قد دمّرتْ بشكلٍ هائلٍ تماسُكَ النظام الصحّي الفلسطيني (على طرفَي الجدار والسياج).
لقد بات جليّاً منذ سنوات عدة أنّ الطاقم الطبّي الفلسطيني العامِلَ في الخدمة لم يستطع أن يعتمدَ على الحصانة التي تُقدِّمها له اتفاقيةُ جنيف الرابعة. فأعضاءُ الطاقم أنفسُهم مستهدَفون: مثلاً، قُتل 11 شخصًا (أو لمزيد من الدقّة، ارتُكبتْ ضدّهم جريمةُ قتلٍ) قبل أكثر من عامٍ حين أُطلق على إحدى السيّارات صاروخان من الجوّ. ومن بين الضحايا عاملان صحّيان كانا يركضان من أحد المرافق الصحّية القريبة ليُنجِدا ضحايا الصاروخ الأول، فقُتلا من جرّاء الصاروخ الثاني، الذي يبدو أنّه أُطلق على الرغم من وضوح المشهد.
واحتجّ الصليبُ الأحمر على حادثة وقعتْ في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 حين قُتل عاملان صحيّان، يرتديان بذلتيْن فلورسيّتيْن مُعَلَّمتيْن بوضوح، حين كانا يَخْرجان من سيارة إسعافٍ (بصفّارة إنذارٍ وأضواءٍ وَمْضيّةٍ) ليُخْليا مدنيين جرحى. هذا وقد رَفَضَ رئيسُ الجمعية الطبّية الإسرائيلية د. يورام بلاشار رفضًا ثابتًا الإقرارَ بما يستدعي القلقَ حيال هذا الوضع. وهو يَنْعَتُني، أنا وآخرين، وعلى نحوٍ روتينيّ، بأنّنا مدفوعون باللاسامية وبالانحياز ضدّ إسرائيل! وحين نَشَرتُ مراجعةً في المجلة الطبّية البريطانية (BMJ) عامَ 2004، كَتَب على موقع المجلة الإلكتروني: “إنّ الأكاذيبَ والكراهيةَ التي يتقيّأها [سمرفيلد] تُذكِّر ببعضٍ من أسوإ أشكال اللاساميّة المعتَنَقَةِ أبدًا” ـ وهذا ردٌّ يوجِّه ازدراءً واضحًا للتوثيق في المجال العامّ الذي استَشْهدُ به.
كما وَردتْ، وبشكلٍ واسعٍ، تقاريرُ عن انتهاكاتٍ مماثلةٍ ومتواصلةٍ لوثيقة جنيف الرابعة بعد عدوان إسرائيل الفظيع على دولةٍ سيّدةٍ جارةٍ هي لبنان عامَ 2006، ومقتل 1400 مدنيّ تقريبًا. وذُكر أنّ حوالى مليون قنبلة عنقودية، تُستخدم في الأساس ضدّ الأفراد وتَستهدف المدنيين، ألقيتْ على لبنان آنذاك، خلافًا لوثيقة جنيف ـ وهو ما أشارت إليه الأممُ المتحدة. واليومَ تعترف إسرائيل باستخدام أسلحةٍ تحتوي مادةَ الفوسفور، وهو أيضًا سلاحٌ غيرُ شرعيّ ضدّ المدنيين، سبقَ أن استخدمتْه إسرائيلُ في اجتياحها للبنان عامَ 1982 (يتذكّر الصحافي روبرت فيسك أنّه رأى جثّتيْ طفليْن تشتعلان مجدّدًا حين نُقلتا من مستودع الجُثث). علاوةً على ذلك، يؤكِّد أمينُ “اللجنة الأوروبية الخاصّة بخطر الإشعاع” أنّ العيّنات المأخوذة من مواقع الانفجارات توحي بأنّ قنابلَ تحتوي موادَّ يورانيوم ربّما استُخدمتْ هي كذلك. كما قُصفت المستشفياتُ، وأوردت الجرائدُ البريطانية صورًا لسيّارة إسعاف محطّمة اخترَقَها صاروخٌ في قلب علامة الصليب الأحمر الضخمة المطْليّة على سطحها. ورغم ذلك فقد حافظت “الجمعيةُ الطبّيةُ الإسرائيليةُ” على موقفها “الوطني” المعتاد.
وباستثناء الأطبّاء الإسرائيليين المبدئيين في “أطبّاء من أجل حقوق الإنسان،” وهي مجموعةٌ صغيرة، فإنّ تلك الأمورَ الخطيرةَ لم تحظَ على امتداد سنواتٍ عديدةٍ بأيِّ شجبٍ من طرف أعضاء الوسط الطبّي في إسرائيل، بقواعده الأكاديمية في الكليّات الطبيّة والمعاهد البحثية الإسرائيلية. كثيرٌ من هؤلاء الأطبّاء يتمتّعون بعلاقاتٍ أكاديميةٍ عالمية، وحركتُهم ـ خلافًا لنظرائهم الفلسطينيين ـ حرّةٌ، واحترامُهم وأمانتُهم ليسا عُرضةً للتشكيك، فلماذا هذا (التقاعس)؟ حقّاً، إنّ الجامعات الإسرائيلية قد التزمتِ الصمتَ المدروسَ إزاء الأذى البالغ الذي لحقَ، على امتداد سنواتٍ طويلة، بقدرة نظيراتها الجامعات الفلسطينية على العمل كما يَجْدر بالجامعات أن تَعْمل وذلك، بسبب: العوائقِ، والإغلاقاتِ المديدة، وتخريبِ الأملاك، وغزوِ الحَرَمِ الجامعي من قِبل جيش الدفاع الإسرائيلي، وأعمالِ الطرد الاعتباطية، وتخويفِ الطلاّب وإطلاق النار عليهم وهم في طريقهم إلى المحاضرات. علينا، إذنْ، أن نستنتج، وبحزنٍ، أنّ معظمَ الأطبّاء والأكاديميين الطبيّين الإسرائيليين، رغم استثناءاتٍ مشرِّفة، هم في تواطؤ فعليّ أو سلبيّ مع الكولونيالية العدوانية. ويترافق ذلك مع السيطرة الإسرائيلية على كلّ قطاع من قطاعات المجتمع المدني الفلسطيني وسحقِه سحقًا صريحًا وعلى نحوٍ متزايد. كما يترافق مع خطابٍ إسرائيليّ مبرِّرٍ للذات يحتقر الفلسطينيين ويَسْلبهم إنسانيّتَهم بوصفهم شعبًا يعيش في عالمٍ أخلاقيّ مختلف.
أحدُ الخيوط المركزية في عملِ كلٍّ من إدوارد سعيد ونُوام تشومسكي، وكلاهما معبِّرانِ صادقان عن زماننا، يتعلّق بدور المؤسّسات الأكاديمية والمهنية في الغرب. فهذه المؤسّسات يبدو أنّها تجسِّد الوعدَ بسلطةٍ أخلاقيةٍ مستقلّةٍ ضمن المجتمع، ولكنّها في الواقع العملي قد عملتْ بشكلٍ عامّ على إضفاء الشرعية على النظام المهيمن وعلى مصالحه. نجد ذلك بشكلٍ صارخٍ في إسرائيل (وإنْ كان يمكن أن نضيفَ أننا نجده في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أيضًا). ولعلّي أضيف أنّ تشومسكي وَصَفَ لي “الجمعيةَ الطبّيةَ الإسرائيلية” بأنّها تَكْشف عن “انحلالٍ أخلاقيّ مطْلق.”
إنّ الدرس الذي تعلّمتُه هو أنّه على الرغم من أننا نعيش، كما يُفترض، في عصرٍ من الطبّ المستنِد إلى البراهين، فإنّه يتّضح أنْ لا براهينَ تكفي لزحزحة أطبّاء أو غيرِهم إنْ لم يكونوا يريدون أن يصدِّقوا، أو كانوا يَعْتبرون البرهانَ غيرَ ذي أهمية بالمقارنة مع اعتبارٍ “سامٍ” آخر. تلك هي سياساتُ الهوية. وهكذا فإنّ المجلات الطبيّة البريطانية التي تَنْشر موادَّ تتعلّق بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة تتعرّض للإدانة والتهديد الدائميْن من طرف الأطبّاء الموالين لإسرائيل أو غيرهم، ويتلقّى رئيسُ التحرير اتّصالاتٍ [شاجبةً] من هؤلاء أيضًا. ومؤخّرًا تعرّضت “الجمعيةُ المَلكية للطبّ،” وهي مؤسسةٌ محترمةٌ في لندن، لحملةِ تخويفٍ منظّمة، تتضمّن تهديدًا بتحدّي ميثاقها لأنّني سأتحدّث في مؤتمر هناك. وتهمةُ “معاداة السامية” ما زالت مركزيةً في الهجمات على المنشورات الناقدة لسجلّ إسرائيل في مجال حقوق الإنسان، وتشكّل أداةَ إخراسٍ ـ وهي أداةٌ فعّالةٌ على الرغم من خوائها الأخلاقي. وإحدى الحجج المتكرّرة هي أنّ أعضاء الحملات الذين يركّزون على تصرُّفات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة [عامَ 67] يَغْلب أن يكونوا “معادين للساميّة” لأنه ليس ثمة تفسيرٌ محتملٌ آخر لعدم قيامهم بحملات ضدّ بلدانٍ أخرى أيضًا. فهل يُعقل أن يوصَف العاملون اليوم في حملات في قضية التيبت، مثلاً، بأنّهم “مشهورون بعدائهم للصين” أو بأنّهم يَكْشفون عن عنصريةٍ “معاديةٍ للآسيويين،” إلاّ إنْ شوهدوا بأمّ العين في تظاهراتِ احتجاج على ما يجري في العراق أو كولومبيا؟! والحجج الأخرى تُشير إلى وجود مرضى فلسطينيين في بعض المستشفيات الإسرائيلية، وأنّ إسرائيل تَمْلك صناعةً طبيةً متطوِّرة تقنيّاً. إذنْ، ألم يكن ينبغي نقدُ جنوب أفريقيا العنصرية البيضاء في حقبة الأپارتهايد [لمجرّد] أنّه كان هناك مرضى سودٌ في مستشفيات الحكومة، أو لأنّ أولَ عمليةِ زرعِ قلبٍ نُفِّذتْ هناك؟! إنّنا هنا إزاء عمًى أخلاقيّ انتقائيّ بالغ. ولعلّي أضيف أنّ بَعْض مَنْ ينعتونني بمعاداة السامية يَكْشفون عن عنصرية واضحة، وعن إحساسٍ بالتفوُّق الحضاري؛ وهو ما يتجلّى في ملاحظاتٍ من قبيل: “المشكلة الأساسية هي النظرةُ العربيةُ إلى الحياة والعائلة،” أو “كَمْ عربيّاً حَصَلَ على جوائز نوبل؟”. لاحظوا أنّ الإحالات ليست إلى الفلسطينيين، بل إلى “العرب.”
وأخيرًا، بعضُ الناس يريدون الأمرَ ونقيضَه معًا. فهم يتفاخرون باستثنائية إسرائيل (بزعمهم أنَّها “الديموقراطيةُ الوحيدةُ في الشرق الأوسط”)، ولكنّهم يَرْفعون عقيرتَهم بالاحتجاج حين يُمتحن زعمُهم في ضوء الاحتلالِ والكولونياليةِ العسكرييْن الإسرائيلييْن.
إذنْ، ماذا ينبغي أن نَفْعله؟
أولاً، إنّ الجهود المتكرّرة للتخاطب مع “الجمعية الطبّية الإسرائيلية” كانت على غير طائل، وهو ما تُوضحه تجربتي بلا أدنى لبْس. ثانيًا، إنّ الجمعية الطبية العالمية (WMA)، وهي الحارسةُ العالميةُ الرسمية للأخلاقيات الطبّية، قد رَفَضتْ تحدِّي الجمعية الطبّية الإسرائيلية، بل رَفضتْ أن تُقرّ بالمشكلة أصلاً. وإنّ تعيين هذه الجمعية رئيسَها بلاشار عامَ 2003 ليكون رئيسَ مجلس الجمعية الطبّية العالمية يجعل من الوضع برمّته “مسخرةً” صراحًا: فالجمعية الطبّية العالمية تَنتهك هنا التفويضَ المعطى إليها ذاتَه. ثالثًا، لعلّ الأطباء البريطانيين يتوقّعون عملاً ما من طرف جمعيّتهم، الجمعيةِ الطبّيةِ البريطانية، التي تتعاطى لجنتُها العالميةُ الأمورَ الأخلاقية، لكنّهم اختبأوا خلف التفاهات (من قبيل القول “إنّنا نؤْمن بالتعليم”)، وكأنّ الجمعية الطبية الإسرائيلية لم تتّخذ خياراتها بعيونٍ مفتوحةٍ طوال سنوات عديدة. لقد ثابرتْ جمعيةُ الأطبّاء البريطانيين على رفض تحدّي سجلّ الجمعية الطبيّة الإسرائيلية في الجمعية الطبية العالمية، فهل يعكس هذا الرفضُ قوةَ اللوبي الإسرائيلي؟
إننا لا ندعو بخفّةٍ إلى استخدام التعْيير (التشهير) من خلال المقاطعة الأكاديمية، لكنّ الأمور بلغتْ هذا الحدّ بالتأكيد. فإنْ لم نمارسْ ذلك الآن، فمتى؟ المدافعون عن إسرائيل يقولون إنّ المقاطعة الأكاديمية مناقضةٌ لـ “روح الانفتاح والتسامح” وللحاجة إلى “الإبقاء على قنواتِ اتصالٍ مفتوحة.” ولكنّ هذه الأقوال تفاهاتٌ جوفاءُ لا تَصْمد أمام أيّ فحصٍ لما يَحْدث على أرض الواقع، وتبدو مصمَّمةً لمنع مثل ذلك الفحْص. في لحظةٍ كتلك، خَرجت الدعواتُ (وكانت ثمة معارضةٌ كبيرةٌ لها آنذاك أيضًا) إلى العزل الأكاديمي لجنوب أفريقيا أثناء حقبة الأپارتهايد، وتضمّنتْ ـ وحسنًا فَعَلَتْ ـ مقاطعةَ مهنةِ الطبّ الجنوبأفريقية بسبب تواطئها ذي الطبيعةِ الشبيهةِ جدّاً بما نراه اليومَ في إسرائيل.
فعلى سبيل المثال عُلِّقتْ عضويةُ “الجمعية الطبّية لجنوب أفريقيا،” مدّةً ما، في الجمعية الطبّية العالمية. وفي زياراتٍ قمتُ بها إلى هناك في السنوات الأخيرة (وُلدتُ في جنوب أفريقيا) سَمعتُ غيرَ مرةٍ أنّ المقاطعة لعبتْ دورًا مميّزًا في إعادة المهنة إلى صوابها. وكما في جنوب أفريقيا، فإنّ مهنةَ الطبّ في إسرائيل، كما الإستابلشمنت (المؤسّسة الإسرائيلية)، حسّاسةٌ تجاه الرأي العامّ في الغرب، ليس أقلّه من قِبل الزملاء الأطبّاء هناك.
إنّ المقاطعة الأكاديمية، حين يؤول الأمرُ إلى إحدى الحالات المتطرّفة، هي واجبٌ أخلاقيٌّ ومعنويٌّ عندما تَفْشل كلُّ الخيارات الأخرى، وإلاّ فسنكون في الواقع هاربين [من مسؤولياتنا]. وبعكسِ ما يَزْعم البعضُ، فإنّ المقاطعة الأكاديمية ليست ضدَّ “الحرية الأكاديمية،” بل في صميم روحها. إنّ طبيبًا إسرائيليّاً (أو طبيبةً إسرائيلية) يعلن (تعلن) انفصالَه (انفصالَها) عن ممارسات الدولة، يصبح (تصبح) جزءًا من الحلّ، لا جزءًا من المشكلة. ونقطةُ البدء هي مقاطعةُ الجمعية الطبية الإسرائيلية، التي اتّخذتْ وتتّخذ قراراتِها بعيونٍ مفتوحةٍ على امتداد سنوات عديدة، وعليها أن تُخْضَعَ للمحاسبة إزاء ما تقوم به. وهذا يفسِّر لماذا أَصدر 130 طبيبًا من المملكة المتحدة نداءً من أجل مثل هذه المقاطعة، وذلك في رسالةٍ مشتركةٍ نُشرتْ في جريدة الغارديان في 21/4/2007.
لندن
ديريك سمرفيلد Derek Summerfield: محاضر فخري أعلى في معهد علم النفس، في كينغز كولدج، لندن. وهو معلَّم مشارك في مركز دراسات اللاجئين، في جامعة أوكسفورد. وهو، علاوةً على ذلك، رئيس أطبّاء علم النفس في المؤسسة الطبية لرعاية ضحايا التعذيب, لندن.
الآداب- 2008