حضرة النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار،
لا تدخل إلى حسابِ مواطنٍ لبنانيٍ فاعلٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، إلّا وتجد على الأقلّ منشوراً واحداً عن المُسيّرات «الإسرائيلية» التي تخرق سماء لبنان بشكلٍ مستمرّ، وباتت مشهداً يومياً مألوفاً منذ أكثر من عامين. فالمُسيّرات لا تغيب عن الشريط الحدودي، ولا عن الضاحية الجنوبية، ولا عن البقاع أو الجنوب. يُسمع أزيزها فوق المنازل، تُرصد بعدسات الهواة، وتُوثّقها بيانات الجيش اللبناني بشكلٍ متكرّر.
لكن، للمفارقة الصارخة، فإنّ بعض الذين يعبّرون عن غضبهم واستنكارهم لهذه الانتهاكات الجوية، يستخدمون في حياتهم اليومية تطبيقاتٍ وخدماتٍ تُسهم، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في دعم تلك الصناعة نفسها التي تغزو سماء لبنان وتقتل أبناءه! من أبرز الأمثلة على ذلك، شركة «أوبر» (Uber) العالمية التي يظنّ كثيرون أنّها مجرّد تطبيقٍ لنقل الركّاب، فيما تكشف الوقائع أنّها باتت من المستثمرين في مجال المسيّرات «الإسرائيلية».
بحسب حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل»، فإنّ شركة «أوبر تكنولوجيز» متورطة على نحوٍ واضح في دعم هذا القطاع الحساس. ففي أيلول 2025، أعلنت الشركة عن أول استثمارٍ لها في مجال الطائرات المسيّرة، بعشرات الملايين الدولارات، في شركة «إسرائيلية» ناشئة تُدعى «فلايترِكس» (Flytrex)، متخصّصة في توصيل الطلبات باستخدام الطائرات المسيّرة.
تأسست «فلايترِكس» أواخر عام 2013 على أيدي قريبين من قطاعي الدفاع والمراقبة في الكيان “الإسرائيلي»، عمل بعضهم سابقاً في وحداتٍ تكنولوجية مرتبطة بجيش الاحتلال، ما جعل الشركة جزءاً من منظومة التطوير الأمني والتقني التي يستند إليها الاحتلال في عملياته العسكرية والاستخبارية.
وتسعى «أوبر» من خلال هذه الشراكة إلى دمج الطائرات المسيّرة في خدمة «أوبر إيتس» (Uber Eats) لتوصيل الطلبات بسرعةٍ قياسية وفي دقائق معدودة، بتكاليف تشغيلٍ منخفضة وانبعاثاتٍ بيئيةٍ أقل. لكنّ خلف هذا التبرير التقني والاقتصادي، تكمن مشكلة أخلاقية أعمق، إذ إنّ الاستثمار في شركةٍ «إسرائيلية» عاملة في مجال الطيران المسيّر، يعني تعزيز القدرات اللوجستية والتكنولوجية التي تُستخدم أيضاً في الميدان العسكري ضدّ الفلسطينيين وبلدانٍ مجاورة، من بينها لبنان.
ورغم أنّ «أوبر» كانت قد أنهت عملها المباشر داخل الكيان «الإسرائيلي» قبل سنواتٍ بسبب خلافاتٍ تنظيمية داخلية تتعلّق بتشغيل سيارات الأجرة، إلا أنّها لم تنسحب من السوق «الإسرائيلية» بالكامل، بل حافظت على حضورٍ استثماريّ في قطاع التكنولوجيا. هذا الاهتمام المستمرّ بالتعاون مع الشركات «الإسرائيلية» الناشئة، يُظهر أن الشركة لا ترى في الاحتلال عائقاً أخلاقياً أو سياسياً، بل بيئةً مناسبة للابتكار والربح.
بالنتيجة، يجد اللبناني نفسه أمام مفارقة قاسية: يندّد يومياً باختراق الطائرات «الإسرائيلية» لأجوائه، فيما يساهم من دون قصد، عبر استخدامه لخدماتٍ مثل «أوبر»، في تمويل التكنولوجيا ذاتها التي تُنتج تلك الطائرات وتُطوّرها.
ويُطرح هنا سؤالٌ بديهي: هل يمكن فعلاً فصل التكنولوجيا عن السياسة في عالمٍ باتت فيه الشركات العابرة للقارات جزءاً من المنظومة الداعمة للاحتلال؟
ربما آن الأوان لأن يتحمّل المستخدمون مسؤوليتهم في التدقيق بخياراتهم الاستهلاكية، تماماً كما يفعلون حين يقاطعون سلعة أو شركة بسبب موقفٍ سياسي أو تورّطٍ في تمويلٍ حربي. فكل نقرةٍ على تطبيق، وكل طلبٍ عبر «أوبر»، قد يعني – من حيث لا ندري-– مساهمةً صغيرة في تمكين آلةٍ تُراقب سماءنا بطائراتٍ لا تغيب.
هذا الإخبار برسم النائب العام التمييزي، المعني بالنظر به، لأنه يتعلق بشبهة مخالفة لقانون المقاطعة الصادر عام 1955، ودوره أن يحقق في الأمر، على أن يستتبع التحقيق بقرار صادر عن مجلس الوزراء بمنع وجود «أوبر» في لبنان.
موقع عكس السير