تكمن أهمّيّةُ النقاش الدائر هذه الأيّام حول مفهوم التطبيع مع دولة الاحتلال والأبارثهايد والاستعمار الاستيطانيّ، وحول تحديد معايير المقاطعة، في كونه يأتي في سياقِ “صفقة القرن” التي بدأت الإدارةُ الأمريكيّةُ تطبيقَها فور تولّي ترامب الرئاسةَ. وتهدف “الصفقة” إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة بالكامل؛ وذلك مرتبط ــ حكْمًا ــ بتخطّي الشعب الفلسطينيّ، وعدمِ احترام أيّ معايير يضعها ممثّلوه في الداخل والخارج.
السؤال الذي ستحاول هذه المقالةُ الإجابةَ عنه يتمحور حول ما قامت به فرقةُ “هتاري” الآيسلنديّة، والمطربةُ الأمريكيّة مادونا، في مسابقة الأغنية الأوروبيّة (اليوروفيجن) في مدينة تل أبيب الأسبوعَ المنصرم، مِن رفعِ العلم الفلسطينيّ في المسابقة. فهل هذا العمل يستحقّ التقديرَ والثناءَ، أمِ النقدَ والشجبَ لأنّه يَضرب المعايير التي أقرّها المجتمعُ الفلسطينيُّ ــ بأغلبيّة ساحقة ــ سنة 2007 في مؤتمر “اللجنة الوطنيّة للمقاطعة”؟
وكنت قد كتبتُ، قبل عدّة أعوام، ورقةً بحثيّةً[1] عن أشكال التضامن المطلوبة مع الشعب الفلسطينيّ، والدروس التي علينا تعلّمُها ــ وتتعلّمُها فعلًا حركةُ المقاطعة الفلسطينيّة ــ من التجربة الجنوبأفريقيّة؛ عنيتُ: استلهامَ هذه التجربة الناجحة ضدّ نظام الأبارثهايد، والبناءَ عليها، وتجنّبَ أخطائها. ما يهمُّنا في هذا السياق هو الإصرارُ على التمثيل الفلسطينيّ، وعلى حقّنا في توجيه حركة التضامن الدوليّ كمضطهَدين نرزح تحت نظام اضطهادٍ مركّبٍ (تخطّى في قمعه لنا ــ بحسب العديد من النشطاء الجنوب أفارقة ــ نظامَ الأبارثهايد نفسَه).
ولكي نضع الأمورَ في سياقٍ عمليّ، فإنّني سأتطرّق إلى تجربةٍ خضناها ــ نحن نشطاءَ المقاطعة في قطاع غزّة، الذي يعاني حصارًا همجيًّا منذ العام 2006، مرورًا بعدّة حروبٍ أودت بالآلاف من المدنيين العزّل.
***
فمنظّمة “كود بينك” الأمريكيّة قامت بتنسيق العديد من زيارات “كسر الحصار” المفروض على غزّة، بعد الحرب الإسرائيليّة سنة 2009. وفي منتصف ذلك العام، اصطحبت المجموعةُ بعضَ الكتّاب المعروفين بـ”تأييدهم” للقضيّة الفلسطينيّة، لكنْ من منظور”يساريّ صهيونيّ”؛ أيْ إنّهم يؤيّدون “حلَّ الدولتين،” المبنيَّ على أساس حدود 1967، مع التغاضي عن حقّ عودة اللاجئين وعدم المطالبة بالمساواة الكاملة لفلسطينيي 48. وقد أثمرتْ تلك الزيارةُ عن اقتراح التحضير لمسيرةٍ عالميّة، في الذكرى السنويّة الأولى لمجزرة غزّة 2008، تضمّ الآلافَ من المتضامنين الدوليين والفلسطينيين، تتوجّه إلى المعابر التي تفْصل القطاعَ عن فلسطين المحتلّة عام 48، يُطلق عليها اسمُ “مسيرة غزّة نحو الحرّيّة.” وقد روّجتْ “كود بينك” الفكرةَ من خلال رسائلَ بعثتْها إلى حركات التضامن الدوليّة ومؤسّساتِ المجتمع المدنيّ، فقامت هذه بدورها بالاتصال ببعض الناشطين الفلسطينيين للاستشارة الشخصيّة.
بالاطّلاع على النسخة الأولى من النداء الذي صاغه كاتبٌ أمريكيّ،[2] وحصل على توقيعاتٍ فلسطينيّةٍ متسرّعةٍ قليلة، كان رأيُ النشطاء أنّ مبدأ كسر الحصار من خلال إرسال وفود تضامنيّة إلى القطاع الصامد، الذي كان يلعق جراحَه بعد فقدان أكثر من 1400 شهيد وتدمير بنيته التحتيّة، أمرٌ لا يمكن الاختلافُ عليه، ولكنّه يجب ألّا يأتي في معزلٍ عن أشكال المقاومة المدنيّة الأخرى، وفي مقدّمتها المقاطعةُ وعدمُ الاستثمار في كيان الاحتلال وفرضُ عقوباتٍ عليه؛ كما يجب ــ بحسب رأي النشطاء ــ التنويهُ في النداء إلى أنّ ثلثيْ سكّان القطاع لاجئون كفلتْ لهم الشرعيّةُ الدوليّةُ حقَّ العودة والتعويض تبعًا لقرار الأمم المتحّدة 194.
تكمن النقطةُ الخلافيّة الجوهريّة بين ما اقترحه النشطاءُ الفلسطينيّون، والنسخةِ الأولى من “نداء مسيرة غزّة نحو الحرّيّة،” في أساس تعريف القضيّة الفلسطينيّة، لا في توابعها، وفي السؤال عن أنجع الطرق النضاليّة للوصول إلى حلٍّ عادلٍ يأخذ في الأساس معاناةَ المضطهَد المحاصَرِ وصوتَه. فمن وجهة نظر النسخة الأولى من البيان، تكمن “المشكلة” في احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أيْ لـ 22% من أرض فلسطين التاريخيّة فقط. أمّا التطرّقُ إلى جريمة التطهير العرقيّ التي ارتُكبتْ في العام 48، واعتبارُها أساسَ المشكلة، والتمييزُ العنصريّ الممارَسُ ضدّ فلسطينيي 48 نتيجةً لذلك، فذلك في رأي مُعِدّ النسخة الأولى من البيان طرحٌ “غيرُ واقعيّ” ويزيد المشكلةَ تعقيدًا! ومن ثمّ فإنّ حصار غزّة، في رأيه، هو نتاجُ الاحتلال الذي بدأ في العام 1967، وأيَّ محاولةٍ لفكّ هذا الحصار يجب أنْ تأتي من خلال فصل “مشكلة” غزّة عن كلِّ ما نتج من عمليّة التطهير العرقيّ (المخطّطِ له بدقّةٍ بالغةٍ قبل سنة 1948)، وباتّباع أساليبَ غانديّةٍ لاعنفيّة، ومن دون التطرّق إلى الدعوة إلى “مقاطعة إسرائيل وعدم الاستثمار فيها وفرض عقوبات عليها،” وهي دعوةٌ يأخذ مُعدُّ النسخة الأولى من البيان [نورمان فنكلستين] موقفًا معاديًا[3] منها.
في المقابل، كان رأيُ النشطاء الفلسطينيين الذين جرت استشارتُهم أنّ أيَّ مجهودٍ دوليٍّ متضامنٍ مع الشعب الفلسطينيّ، وهادفٍ إلى إنهاء حصار قطاع غزّة، يجب أنْ ينطلق من سياق النضالات الفلسطينيّة المتعدّدة والمتراكمة منذ العام 48، والأخذ في الاعتبار أنّ القطاع بين العاميْن 1994 و2006 قد تحوّل من “بانتوستان” ومعسكر لاجئين كبير إلى أكبر سجنٍ مفتوحٍ على سطح الكرة الأرضيّة. وأصرّ النشطاءُ على أنّ المقاومة الشعبيّة، المتجذّرةَ في التاريخ الفلسطينيّ، والمفتوحةَ على نضالات الشعوب الأخرى، تُعَدّ رافدًا مهمًّا، بل أساسيًّا، في دعم وسائل كسر الحصار، وأنّ أهمَّ أسلوب نضاليّ مدنيّ في المرحلة الحاليّة يكمن في مقاطعة “إسرائيل،” على نمط ما حصل ضدّ نظام التفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا. ومن ثمّ، فإنّ “نداءَ مسيرة غزّة نحو الحريّة” يجب أنْ يتضمّن إشارةً إلى نداء المقاطعة الفلسطينيّ[4] (2005) الذي يتمحور حوله شبهُ إجماعٍ فلسطينيّ.
كانت تلك التجربة درسًا كبيرًا لنا في غزّة، بشكل خاصّ، من النواحي الآتية:
أوّلًا: أوضحتْ لنا، ولكلِّ مَن عايشها، أنّ التضامنَ الدوليّ يجب أن يكون داعمًا للنضال الفلسطينيّ، لا موجِّهًا له، وأنّ زمنَ “إلقاء المحاضرات” علينا قد ولّى!
ثانيًا: أوضحتْ لنا أنّ الشوطَ الكبير الذي قطعتْه المقاومةُ الشعبيّةُ الفلسطينيّة، وفي مقدّمتها حركةُ المقاطعة التي تحقِّق إنجازاتٍ ملموسةً في عزل “اسرائيل،” لا يمكن التفريطُ فيه بأيّ شكلٍ من الأشكال.
ثالثًا: أوضحتْ لنا أنّ حصارَ قطاع غزّة، كما العمل على كسره، يأتيان في إطار سياقاتٍ ترجع بجذورها إلى العام 48، مع الأخذ في الاعتبار التحوّلاتِ الهائلةَ التي حصلتْ خلال هذه الفترة.
***
وهذا يقودنا إلى مسابقة الأغنية الأوروبيّة التي أقيمت في تل أبيب بعد أسبوعين من أكبر هجمةٍ إسرائيليّة، منذ العام 2014، على القطاع الصامد. ففي غضون يومين، قَتل الاحتلالُ 28 مدنيًّا، بينهم سيّدتان في حالة حملٍ ورضيعتان، ودَمّر مئاتِ الوحدات السكنيّة والأبراج. ومع ذلك فقد تصرّفتْ “إسرائيل” وكأنّ شيئًا لم يحدث، فأرادت أنْ تعقدَ المسابقة لكونها أكبرَ رصيد في حملة الهاسبراة[5] التي تروّجُها من خلال وزارة الأمن والشؤون الاستراتيجيّة، وذلك بعد نقل ملفّها من وزارة الخارجيّة. وهذه فرصة[6] كبيرة لها في حساباتها؛ ذلك لأنّ عدد المشاهدين عادةً ما يتراوح بين 100 مليون و600 مليون. ولكنّها أيضًا ساحة مفتوحة تستطيع حركةُ المقاطعة العالميّة، بقيادتها الفلسطينيّة، أنْ تستثمرَها لصالح القضيّة.
من هنا نفّذتْ حركةُ المقاطعة حملةً مضادّةً على مدار العام، أدّت في المحصلة النهائيّة إلى فشلٍ ذريعٍ للمهرجان، على ما اتّضح من العدد الضئيل للسيّاح الذين وصلوا تل أبيب، والمشاهدين، والعددِ القليلِ من التذاكر التي بيعت؛ وعلى ما اتّضح أيضًا من العدد الكبير للحفلات الفنّيّة البديلة،[7] ومئاتِ العرائض التي وقّعها أكثرُ من 150.000 شخص[8] احتجاجًا على الحفل.
لكنّ النقاش الدائر في وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعيّ، بلغ ذروتَه عندما قام أعضاءُ فرقة هتاري الآيسلنديّة بالتلويح بأعلام فلسطين، أثناء تجميع أصوات الدول لتحديد ممثِّل الدولة الفائزة. كما قامت المغنّية مادونا بحركةٍ بهلوانيّةٍ في فقرتها الختاميّة، من خلال إظهار علم فلسطين على عباءةٍ بيضاء ترتديها إحدى راقصات فرقتها، وهي تشبك يدَها بيد راقصٍ آخر يضع علمَ “إسرائيل” على عباءته البيضاء. فقد اعتبر البعض أنّ ذلك يُعدّ انتصارًا كبيرًا للقضيّة الفلسطينيّة، وإبرازًا لروح التضامن الفعليّ، أو أنّه ــ على الأقلّ ــ لمس قلبَ[9] الفلسطينيين. ونُسِي، أو تُنوسِي، أنّ مقاطعةَ المهرجان كانت مطلبًا فلسطينيًّا منذ بداية الإعلان عن أنّ “اسرائيل” ستستضيف يوروفيجن 2019، وأنّ المقاطعة تعبِّر عن موقف شبه إجماع فلسطينيّ. ويتّضح ذلك من كلّ البيانات التي صدرتْ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وعن “الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل.”[10] وبالتالي فإنّ مقاطعة المهرجان بالكامل هي المطلب الذي يريده المضطهَدُ الفلسطينيّ حدًّا أدنى لإبراز التضامن معه.
ويتّضح من النقاش أنّ البعض لا يميِّز بين معايير المقاطعة الدوليّة، وبين غيرِها من المعايير. بل هناك تشويش ــ متعمّد في كثير من الأحيان ــ على تعريف التطبيع كما أقرّته قوى الشعب الفلسطينيّ الحيّة.[11] الكثير من هذه النقاشات عاطفيّ، ويقوم على أساس أنّ ما قامت به الفرقةُ الآيسلنديّة ومادونا فعلٌ يستَوجب الإطراء، مع أنّ مشاركةَ الفرقة ومادونا في مهرجان يوروفيجين في تل أبيب ــ على الرغم من الحركات الاستعراضيّة التي قامتا بها في هذا الحدث ــ ينطبق عليها حرفيًّا تعريفُ التطبيع. ومن ثمّ فإنّ هذه المشاركة تقوّض معاييرَ المقاطعة التي يلتزم بها كلُّ مَن يتضامن مع قضيّتنا العادلة.
التضامن الجدّيّ يعني الاستجابةَ لنداءِ المضطَهَد الرازح تحت احتلالٍ وأبارثهايد واستعمار استيطانيّ، من دون إملاء الشروط عليه. لا يمكن اعتبارُ ما قامت به الفرقةُ الآيسلنديّة، التي رفضت الاستجابةَ لعدد ضخم من أبناء شعبها الذين وقّعوا على عريضة[12] تطالبها بعدم المشاركة، إلّا أنه عدمُ احترامٍ لمطالبنا[13]، وإنْ كانت تدّعي أنّها تؤيّد بعضَها.
***
نعود إلى الدرس الجنوبأفريقيّ في النضال ضدّ نظام الأبارثهايد العنصريّ. فحين أطلق نشطاءُ أفارقةٌ نداءً إلى المجتمع الدوليّ سنة 1958 بضرورة عزل نظام الأبارثهايد، أصرّوا على تحديد معايير المقاطعة بأنفسهم، وأصرّوا على وجوب أنّ يستجيب المتضامن لهم. من المؤسف أنّ بعضَنا ما زال يعاني عقدةً دونيّةً في ما يتعلّق بكلّ ما يفعله أصحابُ البشرة البيضاء. وذلك قد يكون نابعًا من أنّ ميكانيزمات القهر والذلّ والاضطهاد قد تنجح أحيانًا في خلق عقليّةٍ دونيّةٍ عند المضطهَد تبرِّر ما يحصل له على أنّه أمرٌ “طبيعيّ،” وأنّ عليه ــ من ثمّ ــ أنْ يقبل الحدَّ الأدنى ممّا “يتكرّم” السيّد بمنحه إيّاه. وهنا تكمن أهميّةُ ما قاله الأسقف البطل دزموند تُوتُو عن أهميّة رفض الفتات الذي يرميه الرجلُ الأبيض إلى المضطهَد الأسود.[14] ما المطلوب إذًا؟ المطلوب قائمةُ الحقوق كاملة!
الآداب