نص كلمة ألقاها سماح إدريس عضو حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في ندوة عُقدتْ في الجامعة الأميركية في بيروت.
لا أؤمن بفاعلية «الجديد» المنفصل عن «القديم». لذا، لم تكن مقارباتي في أيّ يوم جديدةً تماماً أو مبتكرةً تماماً (وهل ذلك ممكن أصلاً؟). كنتُ في كلّ ما أفعله أهضِمُ ما سبق أن صنعه غيري من قبلي، وأن أناقشَه، لأستنبطَ منه ما كان قابلاً للتطوير ومنسجماً مع أفكاري.
أعمل في أربعة مجالات: النشر، التأليف المعجمي، الكتابة للأطفال، السياسة الداخلية. لن يتّسع الوقت للحديث عن هذه المجالات؛ أكتفي بالقول إني تسلّمتُ رئاسة تحرير مجلة أدبية وقومية عربية، فلم أنسِفْ ما تسلّمتُه عن بكرة أبيه (أو أبي) كما تمنّى البعض، بل حاولتُ أن أطرح مقارباتٍ تجديديةً في الأدب والنقد والفكر القومي، وذلك في صيغةِ ملفّات كبرى، أذْكرُ منها: «العروبة بعيون كردية»، «العروبة بعيون أمازيغية»، «أفكار في تجديد القومية العربية». وأعملُ منذ ثلاثة عقود على أضخم معجم عربي ـ عربي، فأحرِصُ على أن أُدرجَ فيه بعضَ المولّداتِ الحديثة والعاميّات والأمثالِ الشعبية والكلماتِ المعرّبة، جنباً إلى جنب مع الكلمات «القديمة» وما بات قليلَ الاستخدام أو «مهجوراً». كذلك فإنني أكتبُ للأطفال والناشئة بلغةٍ سعيتُ إلى أن تبقى عربيةً فصحى تراعي القواعدَ السليمةَ المتّبعة، لكنها سلسةٌ رشيقةٌ لا تنفّرُهم ليلوذوا بآدابِ لغاتٍ أخرى؛ وسعيتُ أيضاً إلى أن أكتبَ عن واقعهم القريبِ إليهم، لا أن أقتبسَ مراراً وتكراراً ـ وبذريعة «الأصالة» ـ حكاياتِ التراثِ العربيّ القديم فأزيدَهم اغتراباً على اغتراب. أما في مجال النشاط اللبناني المناهض للطائفية، فقد حاولتُ قدْرَ الإمكان أن أذكّر بمنطلقات مفكّري النهضة أمثال المعلّم بطرس البستاني، تشديداً على أنّ العَلمانية المطروحة اليوم بديلاً من النظام الطائفيّ ليست نبتةً غريبةً عن فكرنا ومجتمعنا. ضمن هذه المجالات، إذن، كنتُ أنطلق من مبادراتٍ سبقني غيري إليها، متفادياً ادّعاءَ «القطيعة» مع الماضي، لا لأنها محضُ وهمٍ فحسب، بل لأنها لا تفيد التطورَ الفعليَّ نفسَه أحياناً.
أما في ما يخصّ مقاطعةَ داعمي إسرائيل، وهو موضوعُ كلمتي هنا، فقد كنتُ في عام 2002 ضمن مجموعةٍ من الناشطين والأكاديميين الذين توقّفوا عن اعتبار البيانات وتظاهرات التأييد للشعب الفلسطيني كافيةً. فأنشأوا بعيْد مجزرة جنين حملةً لمقاطعة الشركات التي تدعم إسرائيل، وحدّدوا معاييرَ ذلك الدعم، من بينها:
1ــ بناءُ مصانعَ ومراكزِ بحثٍ وتنميةٍ في أراضٍ فلسطينيةٍ مسروقةٍ و«مطهّرةٍ» عرقيّاً من سكّانها الأصليين.
2ــ الاستثمارُ في شركات إسرائيلية بما يرفع من قيمتها في البورصة العالمية.
3ــ دعمُ الصندوق القومي اليهودي، المسؤول الأول عن توطين المهاجرين اليهود إلى فلسطين.
4ــ تصنيعُ محرّكات طائرات وجرّافاتٍ تسهم في قتل الفلسطينيين وجرفِ بيوتهم.
5ــ رعايةُ نشاطات ثقافية ورياضية وموسيقية داخل الكيان الصهيوني تسهم في طمس صورته الاحتلالية الإجرامية العنصرية.
حين بدأنا حملة المقاطعة لم ننطلقْ من فراغ لكي نزعم القطيعةَ مع ماضينا. فالأقطار العربية قاطعت الكيانَ الصهيوني عقوداً طويلةً منذ تأسيسه، وأدّت إلى تكبيده عشراتِ المليارات من الدولارات بين عاميْ 1949 و1993. ولبنان تحديداً أقرّ، منذ عام 1955، قانوناً ينصّ على لاقانونيةِ «امتلاك أو المساهمة في مؤسّسات أو أعمال إسرائيلية داخل إسرائيل أو خارجها». لكنّ المقاطعة الرسمية العربية تضعضعتْ بدءاً من سنة 1977 بزيارة السادات للقدس، وتوقيعِ اتفاقِ كامب ديفيد، لتبلغ مرحلةَ تهرّئها المخجل مع توقيع منظمة التحرير الفلسطينية والأردن اتفاقيتيْ أوسلو ووادي عربة على التوالي. أما لبنان، فاقتصر قانونُه ذاك على التعامل التجاريّ مع إسرائيل، وإنْ كان لبنان موقّعاً أيضاً على مواثيق الجامعة العربية التي تُلْزم اللبنانيين بمقاطعة داعمي إسرائيل أيضاً. في كلّ الأحوال، وبعد الاتفاقيات الرسمية العربية مع العدو، ولاسيّما أوسلو، انهال عشراتُ آلاف العرب على «ماكدونالدز» و«ستاربكس» و«نسله» و«كوكاكولا» و«جونسون آند جونسون» وغيرها من الشركات الداعمة للاقتصاد الإسرائيلي، وبعضُها نال عام 1998 جائزةَ اليوبيل الذهبيّ من بنيامين نتنياهو لإسهامها في تعزيز ذلك الاقتصاد. وعنى ذلك لنا، نحن الناشطين، أنّ المقاطعة العربية طوال العقود الماضية (1948 ـ 1993) لم تتغلغلْ بشكل عميق في قلوب العرب ورؤوسهم، وأنها كانت أقربَ إلى أن تكون قانوناً مفروضاً من «فوق». لذا لجأنا إلى تلك الحملة، التي أردناها مقْنعةً أكثرَ منها محرّضة. فنجحنا في مجالات، وتعثّرنا في مجالاتٍ أخرى. هنا، سأركّز على مجالات التعثّر لأنها ذات علاقة وثيقة بجدل القديم/ الجديد الذي نحن بصدده.
1ــ اعتاد كثيرٌ من الناشطين والجمهور المتعاطف مع القضية الفلسطينية التسليمَ بأنّ كلَّ أميركيٍّ شرٌّ مطلق، وقد يبلغ الأمرُ ببعضهم حدّ تعميم هذا الحكم على «الغرب» أو اليهود أجمعين. كان علينا هنا أن نخوضَ ما يشبه الحربَ الداخلية في صفوف الناشطين لكي لا تتحولَ المقاطعة إلى حركة أصوليةٍ كارهة للأجانب واليهود. صحيح أنّ مسايرةَ النزعات الأصولية قد تزيدُ من خسائر الشركات الداعمة لإسرائيل في فترة الاحتدام العسكري، لكنها ستلحق الضرر بمبادئنا وأهدافنا الأخرى لكونِ أكثرِنا من الناشطين العَلمانيين المعادين لنزعات التكفير وكراهية الأجانب.
2ــ كما في كلّ حركةٍ تتوخّى التوسّعَ الجماهيري، تعلو أصواتٌ شعبويةٌ تعتمد الإثارةَ، لا التوثيق. والإثارة، كنزعات كراهية الأجانب، تُكْسب الحركاتِ الشعبيةَ، في لحظةِ احتدامِ الصراع، جمهوراً، لكنه جمهورٌ هشُّ الركائز، ينفضُّ عن هذه الحركات إذا شكّك في صدقيّة معلوماتها. فمثلاً كان علينا أن نُقنع بعضَ الناشطين، قبل عامّة الجمهور، بأنّ مسحوقَ «آرييل» لا تنبغي مقاطعته لأنه على اسم السفّاح آرييل شارون، ولا أنّ «كوكا كولا» مقلوبةً تعني «لا محمّد لا مكّة»، بل لأسباب ذات علاقة بدعم «بروكتر آند غامبل» و«كوكا كولا» لإسرائيل.
3ــ يصعب إقناعُ عامّة الناس اليوم بأيّ شيءٍ مكتوب، فما بالكم إذا كان طويلاً مملاً؟ كان علينا، إذن، أن نتبنّى أسلوبَ العروض البصرية، وأن نوزّع (وبعشرات الآلاف) كتيّبات من أربع صفحات قصيرة تتضمّن معلوماتٍ مباشرةً عن كيفية دعم الشركات للكيان الصهيوني.
4 ــ كما يصعب إقناعُ الناس بتأييد حركة «جديدة» ما لم تُظهر لهم أنّها ذاتُ سوابق، وأنها نجحتْ في أماكنَ أخرى من العالم. هكذا كان على ناشطي المقاطعة أن يقرأوا قليلاً عن تاريخ المصريين في مقاطعة البضائع البريطانية زمنَ سعد زغلول، وعن دور الفنانين والشعراء كبيرم التونسي، ومن بعده ماجد يوسف ومحمود الطويل في حضّ الناس على مقاطعة إسرائيل، وصولًا إلى مقاومة التطبيع الثقافي، ولا سيما مع «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» (1979). كذلك بذل الناشطون اللبنانيون جهداً غير قليل في التعريف بتجربة المقاطعة في الهند وجنوب أفريقيا. وهنا كان للثقافة دورٌ واضحٌ في تجديد فكرة المقاطعة في لبنان.
عام 2005 تعثّرتْ حملتنا، وتحديداً بعيْد اغتيال رفيق الحريري والاغتيالاتِ التي طاولتْ شخصياتٍ لبنانيةً منتميةً أو مقرّبةً إلى 14 آذار؛ فقد توجّهتْ مشاعرُ عشرات آلاف الغاضبين نحو النظام السوري. لكنْ مع بداية عام 2009، نشطت المقاطعة من جديد، وأضافت إلى عملها ميداناً جديداً هو مقاطعةُ الفنّانين العالميين الذين يُحْيون عروضاً في الكيان الغاصب ثم يأتون إلى لبنان، أو يجهرون بتأييد إسرائيل مباشرة. وترافق نشاطُنا مع تعاونٍ وثيقٍ مع حملة «بي. دي. أس» التي تأسستْ بعد حملتنا بأربع سنوات. وهنا كانت مهمتُنا أصعب؛ فأقسامٌ كبيرةٌ من المجتمع اللبناني «تحبّ الحياة» وتعتبر أنْ ليس من شأننا أن «نتدخّل» في أفكار الفنّان أيّاً كانت؛ لأن الفنّ يجب ألّا يُخضعَ للسياسة، وتعتبر المقاطعةَ الفنية إرهاباً ثقافيّاً. وقد تجرّأ أحدُ المتعهّدين، جهاد (جياد) المرّ، على مقاضاتنا لأننا دعونا إلى مقاطعة حفل فرقةٍ استقدمها إلى لبنان بعد أن أحيت عرضاً في تل أبيب عقب مجزرة أسطول الحرية، وقال أحدُ أعضائها (برايان مولكو) إنه يدعم إسرائيل «خصوصاً إذا أردنا النزولَ إلى البحر». في ميدان المقاطعة الفنية كان على ردودنا أن تكون أكثر حكمة وابتكاراً، فميّزْنا بين المقاطعة والإرهاب الثقافي، وبين المقاطعة والرقابة على الأعمال الفنية. قلنا إنّ إسرائيل هي التي تمارس الإرهابَ (الثقافي) على مؤسساتنا التربوية في فلسطين، فتغلقها أو تقتحمها، وتعتقل الأساتذةَ والطلاب، وهي التي تمنع بعض المثقفين اليهود العالميين من دخول أراضيها؛ وقلنا إنّ مقاطعة إسرائيل ثقافياً وفنياً وأكاديمياً ليست إلا ردّاً على إرهابها. وأضفنا أنّ كلَّ مَن يتغافلُ عن إجرام إسرائيل، فيغنّي أو يعزف هناك، شريكٌ في طمس هذا الإجرام، وينبغي أن يقاطعَ كما قاطع فنّانو العالم دولةَ الابارتهايد في جنوب أفريقيا. طبعاً، المقاطعة الفنية لإسرائيل في لبنان لا تزال في بداياتها، وهي مسيرةٌ محفوفةٌ بالمصاعب، ليس أقلَّها جهلُ معظم اللبنانيين بأنّ إسرائيل اليوم تتعرّض للمقاطعة من أهمّ الفنانين العالميين كرودجر ووترز وكارلوس سانتانا وذا بيكسيز والفيس كوستيلو وناتاشا أطلس وفانيسا بارادي وكاساندرا ويلسون، فضلاً عن آلاف النقابيين والأساتذة والرياضيين ورعايا الكنائس والعلماء العالميين (آخرُهم ستيفن هوكينغ). ومن هنا فإنّ التنسيق بين حملة المقاطعة في لبنان وحركة «بي. دي. أس» العالمية يُعدّ من أبرز مظاهر الجدّة في عمل حملتنا.
يبقى أن أقول إنّ هذا التنسيق يغْني الطرفين معاً. فالحملتان لا تتفقان في كلّ الأمور، ولكننا نشعر بأنّ كلّ نقاش أو عملٍ مشترك يقرّبنا متراً إضافياً باتجاه تحرير فلسطين.
حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان
بيروت- أيار 2013