أحدَ عشرَ تحدّياً: التطبيع في لبنان

0

سأسلّم بأنّكم جميعكم هنا تطالبون بمقاطعة العدوّ الإسرائيليّ على الصعد كافّةً، وبأنّ معظمَكم على الأقلّ ينشط في مجال المقاطعة أو مقاومة التطبيع. وسأفترض أنّكم تعرفون شيئًا عن نشاط حملة المقاطعة في لبنان. لذا سأحصر كلامي في التحدّيات التي تواجهها هذه  الحملة في مجال التطبيع تحديدًا، وفيها ما قد يتقاطع مع التحدّيات التي تواجهها حركاتُ مقاومة التطبيع في الأردن.

التحدّي الأول: القانون. في العام 1955 صدر “قانونُ مقاطعة إسرائيل” عن جامعة الدول العربيّة، وتبنّاه لبنان طبعًا. وهو ينصّ على الآتي: “يحظَّر على كلّ شخصٍ، طبيعيٍّ أو معنويّ، أن يَعْقد، بالذات أو بالواسطة، اتفاقًا مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ، مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيّتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوعُ الاتفاق صفقاتٍ تجاريّةً أو عمليّاتٍ ماليّةً أو أيَّ تعاملٍ آخرَ مهما كانت طبيعتُه…”[1]

إنّ بقاءَ هذا القانون ساريَ المفعول دعمٌ كبيرٌ لأنصار مقاومي التطبيع. لكنّنا في حاجة إلى ثلاثة أمور في هذا المجال: 1) الأوّل هو تفعيلُ هذا القانون وتطبيقُه؛ فهذا هو القانونُ الوحيد في لبنان الذي ينصّ على “إسرائيل” بالاسم، بخلاف المادّة 285 من قانون العقوبات، وهي التي يحال عليها أحيانًا وتُبْطل ملاحقةَ المتصلين بـ”العدوّ” (من دون ذكر الهويّة) بعد مرور 3 سنوات.[2] 2) الثاني هو إبعادُه عن الاستقطابات أو الاعتبارات السياسيّة والطائفيّة والزعاماتيّة الداخليّة.[3] 3) الأمر الثالث هو وجوبُ توضيحِه وتفصيلِه، وأعني لزومَ الإشارة صراحةً إلى “طبيعة” التعاملات الأخرى المحظورة، فنيّةً كانت أو رياضيّةً أو أكاديميّةً أو نشريّةً أو تدريبيّةً أو علميّةً أو عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ،  كي لا يتوهّم بعضُ الناس أنّ  عقوبةَ التعامل مقتصرةٌ على الجانب التجاريّ وحده.

طبعًا لم يكن أحدٌ  لِيتصوّرَ سنة 1955 أن تستمرَّ دولةُ الاحتلال على قيد الحياة طويلًا كي يفكّرَ ــ ولو مجرّدَ تفكير ــ في الحديث عن أشكال التعامل المذكورة الأخرى. وإنّما كانت الخشيةُ، كما يقول أستاذُ القانون في الجامعة اللبنانيّة د. عصام نعمة إسماعيل، محصورةً في أن يَعمدَ بعضُ “محبّي جمع الأموال” إلى إبرام “صفقاتٍ تجاريّةٍ” مع الاحتلال. ولو كان المقصودُ من “مقاطعة إسرائيل” في ذلك القانون القديم حظرَ التعامل التجاريّ وحده، لَما أحال المشرِّعُ اللبنانيُّ اختصاصَ البتّ في هذا الجُرم على المحكمة العسكريّة، ولَما أدرجَه ضمن “الجرائم الماسّة بأمن الدولة!”[4]

التحدّي الثاني متّصل بالأوّل، ويتعلّق تحديدًا بـ”مكتب مقاطعة إسرائيل،” التابعِ لوزارة الاقتصاد والتجارة في لبنان. فهذا المكتب شحيحُ الإمكانيّات، ويواجه مشاكلَ معقّدةً ودقيقةً جدًّا من قبيل: كيف يحصي، ومن ثمّ كيف يقوِّم، كلَّ الأفلام أو الكتبِ أو المنتوجاتِ التي تدخل لبنانَ، كي يتيقّنَ من أنّها لا تحتوي “مكوّناتٍ” إسرائيليّة: إنتاجًا، أو  بطولةً، أو تمثيلًا، أو  تمويلًا، أو رعايةً، أو تصويرًا، أو توزيعًا، إلى آخره؟

ثمّ إنّ هذا المكتب يَنْدُر أن يتحرّك إلّا على أساسِ ما ترسله إليه حملةُ المقاطعة من معلومات. وأحيانًا يعمد إلى “التحقّق” المتعجّل ممّا ترسله هذه الحملةُ، فيَخْرجُ بخلاصاتٍ عجيبةٍ غريبة (فمثلًا، تبيّن لنا قبل أيّام في ردّه على أحد كتبنا المرفوعة إليه أنّه لا يَعرف الفرقَ بين “النقب” والنجف!).

نحن نضع هذه المشاكلَ في آليّة عمل مكتب المقاطعة في لبنان ضمن إطار “شحّة الإمكانيّات،” كما ذكرنا، لا سوءِ النيّة. لكنْ، ماذا لو  تعارضتْ قراراتُ مكتب المقاطعة (أو كافّةِ مكاتب المقاطعة في جامعة الدول العربيّة) مع رؤية الأطرافِ المهيمنة على صناعة القرار في الحكومة اللبنانيّة؟ وماذا لو تعارضتْ  مع مصالح بعض قوى الرأسمال في لبنان (كشركات توزيع الأفلام مثلًا)، أو مع رؤية وزير الداخليّة تحديدًا؟ النتيجة في هذه الحال قد تأتي لصالح هذه الأطراف والقوى المذكورة. ولا أدلَّ على ذلك من قدرةِ وزير الداخليّة السابق، نهاد المشنوق، التابعِ لكتلة الرئيس سعد الحريري، على نقض قرار “لجنة الرقابة على الأفلام” وقرارِ مكتب المقاطعة في ما يخصّ فيلمَ المخرج الأميركيّ الصهيونيّ ستيفن سبيلبيرغ، ذا بوست. فعلى الرغم من أنّ كافّة أفلام سبيلبيرغ  تقع على “اللائحة السوداء” لدى الجامعة العربيّة بسبب تبرّعه (أثناء عدوان تمّوز 2006) بمليون دولار لمساعدة “النازحين الإسرائيليين،” وعلى الرغم من إثارة السيّد حسن نصر الله موضوعَ هذا الفيلم وتمنّيه على الحكومة الالتزامَ بقرار الجامعة، فذلك لم يغيّرْ شيئًا البتّةَ في قرار المشنوق.[5]

التحدّي الثالث: طغيانُ  جوٍّ يروِّج أنّ مقاومةَ التطبيع الثقافيّ والفنّيّ والرياضيّ والأكاديميّ هو بمثابة “اعتداءٍ” على حريّة الفكر والتعبير والتطوّر العلميّ والثقافيّ. هناك تيّارٌ “ليبراليّ” متفاصحٌ ومكتظٌّ بنفسه في لبنان؛ وهذا التيّار يماهي بين الحريّات والتقدّمِ من جهة، و”الانفتاح” على كلّ شيء وأيٍّ كان ــ ولو كان عدوًّا ــ من جهةٍ ثانية.  مَن المسؤول عن هذه المماهاة؟ جوابُنا: إنّه الانبهارُ بـ”الغرب” في الأساس. فغالبيّةُ الناس، للأسف، تعتقد أنّ المنعَ والحظرَ سمةُ الدول المستبدّة، لا “المتحضّرة،” وهي تجهل وجودَ قوانين في الدول الأخيرة حيال الأفلام والكتب والمؤتمرات التي تُعتبر مروِّجةً لرُهاب المثليّة أو العنفِ أو “معاداةِ الساميّة” أو الاغتصاب [6] أو إنكار المحرقة مثلًا.[7]

وعليه، فإنّ التحدّي الماثلَ أبدًا أمام حملة المقاطعة في لبنان هو أن تبيِّنَ دومًا أنّ حظرَ التطبيع ليس مساسًا بالحريّات، وإنّما هو جزءٌ لا يتجزّأ من سيادة الدول وكرامةِ شعوبها واحترامِ مشاعرها.

التحدّي الرابع: الأحزاب. فبعضُ  أحزاب اليمين، كالقوّات اللبنانيّة و”الكتائب” و”الوطنيين الأحرار،” يساوي بين “إسرائيل” وسوريا وإيران، مع تركيز الهجوم عمليًّا على الأخيرتيْن. ولا يَنْدُر أن تسمعوا قياداتٍ  من “القوّات اللبنانيّة” تشدّد على ضرورة “مقاومة التطبيع،” ليتّضح لكم أنّها تقصد مقاومةَ التطبيع مع النظام السوريّ حصرًا (حتى في ما يتعلّق بعودة النازحين السوريين في لبنان إلى سوريا)!

طبعًا من حقّ أيٍّ كان أن يكون له الموقفُ الذي يريدُه من أيِّ نظام. بيْد أنّ الموقف من “إسرائيل،” خلافًا للموقف من أيّ كيانٍ مجاورٍ أو إقليميّ، ينبغي ألّا يقتصرَ على العداء لنظامها بل لوجودها في ذاته، أيًّا كان نظامُها الحاكم. وتمييعُ “العدوّ،” الوجوديِّ الكيانيِّ، يُفقد استراتيجيّةَ مقاومة التطبيع جزءًا كبيرًا من فعّاليّتها، ويضع حملةَ المقاطعة أمام مهمّةٍ توعويّةٍ يوميّةٍ دائمة.

أما أحزابُ اليسار، التي يتوقّع المرءُ أن تكون في واجهة قوى المقاطعة والتصدّي للتطبيع، فهي تعاني ارتباكاتٍ كثيرةً تعرفونها جميعًا، ولا مجالَ لاستعراضها ولو سريعًا. ومع أنّ قلبَها وعقلَها مع المقاطعة، فإنّ غالبيّتَها قليلًا ما شاركتْ في اجتماعات الحملة أو نشاطاتِها منذ تأسيسها سنة 2002؛ بل إنّ  بعضَ عناصرها يتصرّف وكأنّه في حال تناقضٍ و”تنافسٍ” معها للأسف. وعلاوةً على ذلك، فثمّة، داخل هذا اليسار، فئةٌ مزايدة، وأُخرى تشرّبتْ بعضَ قيم “الليبراليّة” بحكم احتكاكها بمنظّمات المجتمع المدنيّ ذاتِ المعاييرِ المائعة.

وأمّا حزبُ الله فهو لا يعير مسألةَ التطبيع الفنّيّ والثقافيّ والأكاديميّ والرياضيّ إلّا جزءًا يسيرًا من اهتمامه، وإنْ بات مؤخّرًا واضحَ الاهتمام بمواجهة التطبيع السياسيّ الرسميّ العربيّ، وكأنّ هذا الأخير لم يتعزّزْ رويدًا رويدًا بأوجه التطبيع الأخرى على امتداد العقديْن الماضييْن. ولقد اتّضح لنا، من خلال حواراتٍ متعدّدة، أنّ عددًا من أعضاء الحزب المذكور يَعتبر أنّ مواجهةَ التطبيع “أدنى” أهمّيّةً من المقاومة المسلّحة، أو أنّها من قبيل تحصيل الحاصل، على أساس أنّ المقاومة الأخيرة وحدَها تكفي. كما اتّضح لنا أنّ قيادةَ المقاومة نفسَها تخشى أن تُتَّهم بتعطيل الموسم السياحيّ، أو ضربِ الاقتصاد اللبنانيّ، أو العِداءِ للفنّ والرقص والغناء، إنْ هي دعت عناصرَها إلى مواجهة التطبيع مواجهةً فعليّةً. وفي المحصّلة، فإنّ حملةَ المقاطعة تواجه تحدّي الحوار الدائم و”الاشتباك الناعم” مع جمهور المقاومة، الذي كان ينبغي أن يكونَ أمامَها، لا وراءها، في مواجهة التطبيع والشركاتِ الداعمةِ للعدوّ.

التحدّي الخامس: الإعلام. كثيرٌ من وسائل الإعلام اللبنانيّ، خصوصًا الفضائيّ، مثل محطّتيْ LBC وMTV، يعادي المقاطعةَ ومقاومةَ التطبيع في سياسته العامّة. أمّا محطّة OTV فلا تختلف جذريًّا عن المحطّتيْن المذكورتيْن، مع أنّ التيّار السياسيّ الذي تمثِّله حليفٌ لحزب الله. ولقد كان لهذه المحطّة موقفٌ بالغُ العِداء من مقاطعة مشروع Tomorrowland التطبيعيّ، وهناك ثلاثةُ إعلاميّين فيها على الأقلّ لا يُخْفون كراهيّتَهم للمقاطعة. هذا، ويَجْمع بين هذه المحطّات الثلاث رميُ المقاطعة بالجهل، والتخلّف، وضربِ الفنِّ والاقتصاد.

أمّا إعلامُ الـ”بيْن ــ بين،” شأن تلفزيون الجديد NTV، فيحاول أن يوضِحَ “وجهتَي النظر،” ويَتركَ للمُشاهدِ الحُكمَ. وقد يتجاهل خبرَ التطبيع من أساسه أحيانًا، إذا لم يكن “سكْسي” (مثيرًا) ولم يجْلِبْ من “الرايتينغ” ما يكفي. وهناك في هذه المحطّة مَن ناصَب، وما يزال يناصب، حملةَ المقاطعة العَداوةَ الشرسة، المبنيّةَ على كمٍّ من الادّعاءات “المهنيّة.”

وأمّا إعلامُ المقاومة، وتحديدًا محطّاتُ المنار وNBN والميادين، فهو أكثرُ تجاوبًا بكثير مع المقاطعة ومناهضةِ التطبيع، ولا تُمْكن بأيّ حالٍ مقارنتُه بالإعلام السابق. غير أنّه، ويا للأسف، ليس ممنهَجًا، وإنّما يلْحق الخبرَ الآنيَّ (“على القِطْعة”)، ولا يؤسِّس لثقافةِ مقاطعةٍ حقيقيّةٍ مستديمة، تكون أساسَ ثقافةِ مقاومةٍ حقيقيّةٍ مستديمة. لكنْ، ينبغي للإنصاف القول إنّ إعلامَ المقاومة، باستثناء NBN، يخطو حثيثًا باتجاه مواجهةٍ أكبرَ مع التطبيع بمختلف أشكاله؛ الأمرُ الذي يرتِّب على حملة المقاطعة مسؤوليّةَ المتابعة الدائمة مع مراسليه وإدارته.

هذا على صعيد الإعلام المرئيّ. أمّا على صعيد الإعلام المكتوب،  فهناك جريدةٌ كـ النهار تتعامل مع التطبيع كأنّه محضُ تخلُّف، أو “وجهةُ نظر” تقتضي أن تتّخذ منها موقفَ الحياد في أحسن الأحوال.[8] وفي المقابل، هناك جريدةُ  الأخبار، التي تمثّل حليفًا ثابتًا ودائمًا لحملة المقاطعة، على الرغم من بعض الخلافات غير الجوهريّة، وبعضُها لصالح مواجهة التطبيع على نحوٍ يكون أكثرَ هدوءًا واستيعابًا لظروف التباينات اللبنانيّة. هذا طبعًا إلى جانب مجلّة الآداب، التي كرّستْ مقالات وافتتاحيات، بل ملفّاتٍ شاملةً أيضًا، على امتداد الأعوام الماضية تخصّ التطبيعَ والمقاطعة، وتستعدّ خلال أسابيع لإصدار ملفٍّ جديدٍ ينبثق عن مؤتمرٍ تنظّمه حملةُ المقاطعة و”اللقاءُ الوطنيُّ ضدّ التطبيع” عن التطبيع في التربية والإعلام والمجتمع.

التحدّي السادس: التربية. تصوّروا أنّ الدولة اللبنانيّة، الملتزمةَ علنًا، في كلّ بياناتها الوزاريّة بعد مؤتمر الطائف، بذْلَ كلّ الجهود “من أجل تحريرِ ما تبقّى من أراضٍ لبنانيّةٍ محتلّة، وحمايةِ وطننا من عدوٍّ لمّا يزلْ يطمعُ في أرضنا ومياهنا وثرواتِنا الطبيعيّة… وبشتّى الوسائل المشروعة” (بحسب البيان الوزاريّ للحكومة ما قبل الأخيرة مثلًا)، واصلتْ تعليقَ “محور القضيّة الفلسطينيّة” في منهج التاريخ في الصف التاسع أساسيّ لغاية العام 2017. وقد برّر “المركزُ التربويّ للبحوث والإنماء” هذا التوجّهَ بورود “العديد من الملاحظات من جهاتٍ رسميّةٍ وخاصّة،” وبأنّ تدريسَ هذا المحور “يمْكن أن يَطرح إشكاليّةً في المجتمع اللبنانيّ” مرتبطةً بقراءة الصراع الداخليّ اللبنانيّ أثناء الحرب الأهليّة وعدمِ وجود سرديّةٍ “متّفقٍ عليها وطنيًّا!”[9]

وحتى بعد صدور توجيهٍ من وزارة التربية يقضي بإعادة إدراج المحور المذكور، فإنّ ذلك لم يُلحظْ في الامتحانات الرسميّة منذ العام 1997. وهذا يعني ثلاثةَ أمور: 1) أنّ تدريسَه يَخْضع، عشوائيًّا، لـ”رغبة” هذه المدرسة أو تلك. 2) أنّه لن يُدرَجَ، على الأرجح، في أيّ امتحانٍ رسميّ، إذ لن يُسألَ الطلّابُ عمّا لم يُطلبْ إليهم جميعِهم درسُه. 3) أنّنا سنواصل تخريجَ طلّابٍ ثانويين لا تعرف غالبيّتُهم العظمى شيئًا عن قضيّة فلسطين ولا عن الصراع العربيّ ــ الصهيونيّ.

هذا كلُّه ناهيكم باحتواء بعض كتب الجغرافيا في مناهج البكالوريا العالميّة أو الفرنسيّة خرائطَ لـ “إسرائيل،” وأشكالًا هندسيّةً لعَلَمِها الأبيض والأزرق في بعض كتب الرياضيّات، وحديثًا عن الهولوكوست من دون أدنى إشارةٍ إلى نكبة فلسطين في بعض كتب التاريخ.

التحدّي السابع: اختلافُ المعايير في خصوص التطبيع بين حملتنا في لبنان وحملةِ المقاطعة في فلسطين، ما يَسْمحُ لبعض المطبِّعين أو الانتهازيين بالنفاذ من ثغرة ذلك الاختلاف. الجديرُ ذكرُه أنّه في العام 2007، أقرّ ممثّلو الأحزاب والنقابات والهيئات الشعبيّة في فلسطين وثيقةً تطرح الحدودَ الدنيا في تعريف التطبيع من أجل عزل “إسرائيل” دوليًّا، فاقتصرتْ معاييرُها على كلّ ما يضربُ الحقوقَ الفلسطينيّة غيرَ القابلة للتصرّف بموجب القانون الدوليّ (“الحقّ في تقرير المصير، بما فيه حقُّ اللاجئين في العودةِ والتعويضِ طبقًا لقرار الأمم المتّحدة رقم 194، وكافّة القرارات المتعلّقة بعروبة القدس وبعدم شرعيّة الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهجير السكّان…”).
بيْد أنّ هذه المعايير، على الرغم من كونها طرحًا متقدّمًا بالنسبة إلى السياق الدوليّ، لا تتماشى تمامًا مع المعايير التي ترى حملتُنا في لبنان أنّه يجب تبنّيها، خصوصًا أنّنا في بلدٍ طَرد “إسرائيلَ” من معظم أراضيه ويملك أكثرَ من 150 ألف صاروخٍ ضدّها. لذا، لا نعتبر أنفسَنا ملزَمين بمعايير الحملة الفلسطينيّة.

كما أنّنا لا نكتفي بأن نشترط أن تكون العلاقاتُ مع الإسرائيليين “خارج سياق مقاومة الاحتلال والاضطهاد”؛ ذلك أنّ هذا الاكتفاء قد يَسمح للمطبِّعين والانتهازيين العرب بالزعم أنّ علاقتَهم بالإسرائيليين تندرج ضمن ذلك السياق، أيْ في “خدمة مقاومة الاحتلال.”

ثم إنّ حملة المقاطعة في لبنان لا تحصر مسؤوليّةَ الاحتلال بـ”المؤسّسات الإسرائيليّة المتواطئة” مع “النظام الاستعماريّ الإسرائيليّ،” على ما نصّت الوثيقة الفلسطينيّة. ذلك لأنّأفرادًا يهودًا إسرائيليين، وبمساعدة وكالاتٍ ومؤسّساتٍ صهيونيّةٍ وداعمةٍ للصهيونيّة، هم الذين يحتلّون أراضي الفلسطينيين أو منازلَهم.

ووفقًا لذلك، اقترحتْ حملتُنا التعريفَ الآتي للتطبيع: إنّه المشاركة في أيّ نشاطٍ يَجمع بين عربٍ وإسرائيليين ما دامت “إسرائيلُ” قائمةً. وينطبق هذا على كلّ أشكال التعاون العلميّ أو المهنيّ أو الفنّيّ أو النشريّ أو الإلكترونيّ الخ. كما ينطبق على إجراء المقابلات مع وسائل إعلام العدوّ كافّةً، لأنّها جزءٌ من آليّة اغتصاب فلسطين. ولا يُستثنى من ذلك أيُّ إسرائيليّ ما لم يتخلَّ عن جنسيّته الإسرائيليّة. غير أنّه يُستثنى من ذلك، طبعًا، فلسطينيّو مناطق العام 1948، ما لم يروِّجْ بعضُهم للتطبيع مع العدوّ.[10] وهنا نأتي إلى التحدّي الثامن.

التحدّي الثامن: فلسطينيّو 48. هذا من التحدّيات الكبرى التي تواجه حملةَ المقاطعة في لبنان. فلا يجوز أن نعاملَ أهلَنا الخاضعين للتطبيع القسريّ في فلسطين المحتلّة عام 48 وكأنّهم قابلون طوعًا بالاحتلال والتطبيع. لكنْ لا يجوزُ أيضًا، بداعي “خصوصيّة” وضع الاحتلال في ذلك الجزء من الوطن، التغافلُ عما يقترفُه بعضُ فلسطينيي 48 من تطبيعٍ طوعيٍّ واضح؛ مثلًا: عن طريق قبولهم تمثيلَ “إسرائيل” في مهرجاتٍ سينمائيّةٍ في الخارج، أو عن طريق إدراجِهم اسمَ وزارة الثقافة الإسرائيليّة (أو أيّ مموِّلٍ إسرائيليٍّ آخر) ضمن لائحة الداعمين والرعاة المعروضين في مقدِّمة الفيلم أو خاتمتِه، أو عن طريق قيام بعضهم بدور “الجسر” بين العدوّ والسلطة الفلسطينيّة.[11]

وعليه، فإنّ قانون مقاطعة إسرائيل للعام 1955 ينبغي، في رأي حملتنا في لبنان، أنيستثني فلسطينيّي 1948 من المقاطعة ما داموا لا يعملون جسرًا للتطبيع مع العدوّ أو الترويج له. لكنّ هذه المسألة تحتاج إلى تشاورٍ أكبر بين الناشطين في فلسطين والبلدان العربيّة، وداخل كلّ بلد عربيّ على حدة.

التحدّي التاسع: إمكاناتُ حملة المقاطعة نفسها. حملتُنا عبارةٌ عن أفراد، ومتطوّعين، وبإمكانيّات مادّيّة ذاتيّة وتكنولوجيّة قليلة. وقرارُ التطوّع والاستقلال الماديّ التامّ هو قرارٌ اخترناه برضًى وقناعةٍ كامليْن؛ فالتبعيّةُ الماليّة والسياسيّة والحزبيّة هي أحدُ مَقاتِل المقاطعة في عُرفنا. لكنّ ذلك يُرتِّب علينا أعباءً كبيرةً، من بينها: عجزُنا عن متابعة كلّ شاردةٍ وواردةٍ على مختلف جبهات المقاطعة والتطبيع، ووقوعُنا في شيء من التسرّع أو البطء أو التشنّج أحيانًا. وهذا، بدوره، قد يعرِّضنا لحملات المزايدين، ولتخرُّصِ مَن لا عملَ لديهم إلّا التنقيرُ والتمريك.

التحدّي العاشر: وسائلُ التواصل الاجتماعيّ. ما كان لكثيرٍ من إنجازاتنا أن يحصلَ لولا هذه الوسائل، وخصوصًا الفيسبوك والتويتر، إعلامًا وتوضيحًا وتحريضًا. لكنّ هذه الوسائل تَفرض علينا تحدّيًا هائلًا: أن نبقى على أُهْبة الاستعداد للتعامل مع كلّ المستفسرين والشكّاكين والمخوِّنين والصحافيين و”الناشطين” في الداخل والخارج؛ وهو أمرٌ منهِكٌ لا طاقةَ لمجموعةٍ صغيرةٍ على القيام به. ويزداد هذا الأمرُ إنهاكًا مع استسهال كثيرٍ من مستخدمي تلك الوسائل “كبسةَ الزرّ” على لوحة المفاتيح، أو كتابةَ منشور فيسبوكيّ من بضع كلمات أو شتائم. ولعلّ بعضَهم ظنّ أنّ نقدَ حملة المقاطعة بهذه الوسيلة سيُبْرزُه في “الساحة الزرقاء” (الفيسبوك) بعد أن تعب من خوض المعركة في “الساحة الحمراء” (الشارع والحرم الجامعيّ والنقابة…).

التحدّي الحادي عشر: المنظّمات غير الحكوميّة. عددٌ لا يستهان به من هذه المنظّمات يشكّل بيئةً حاضنةً لكلّ المتخلّين عن المشروع المقاوِم، وعلى رأس بنوده: المقاومة المسلّحة، والمقاطعة الشعبيّة، ومقاومةُ التطبيع. وهذه المنظّمات تستهوي فئةَ الشباب بشكلٍ خاصّ، وذلك بسبب سقوفها السياسيّة المنخفضة ووظائفِها الماليّة المُجْزية. وقد اقتَنصتْ فرصةَ تخلّي الدولة عن واجباتها الاجتماعيّة والصحّيّة والبيئيّة والتربويّة، وفرصةَ تضعضع الأحزاب العَلمانيّة والتقدّميّة اللبنانيّة والفلسطينيّة، فاستقطبتْ مناضلين سابقين وحاليّين، وحوّلتْ أجنداتِهم تحويلًا جذريًّا: من العدالة الاجتماعيّة إلى العدالة الانتقاليّة، ومن التحرير إلى التمكين، ومن الاشتراكيّة إلى محو الأمّيّة. وبات على جميع العاملين في السياسة، لا في مجال مقاومة التطبيع فقط، أن يواجهوا جيشًا جرّارًا من”الناشطين” الساخرين من المقاطعة والمقاومة والاشتراكيّة وكلِّ سرديّاتِ التحرير الكبرى.

***

تلك كانت بعضَ أبرز التحدّيات التي تواجه حملتَنا في لبنان. طبعًا، هناك تحدّياتٌ أخرى لن يتّسع الوقتُ للخوض فيها (مثل تحدّي “أصحاب الجنسيّات المزدوجة” الذين يستخدمون جوازاتٍ غيرَ لبنانيّةٍ للتواصل مع رعايا الاحتلال). ولكنّ الحملة تُواصل عملَها بلا كللٍ ولا وهْنٍ، وتتطلّع إلى التعاون الوثيق مع حلفائها في الأردنّ، وفي كلّ العالم، من أجل عالمٍ خالٍ من الصهيونيّة والكيان الصهيونيّ.

* كلمة رئيس تحرير الآداب في مؤتمر عامّ لمقاومة التطبيع وإسقاط وادي عربة، أقيم في نهاية الأسبوع الأول من هذا الشهر (نيسان/ابريل 2019) في عمّان (الأردنّ)، وهو من تنظيم لجنة مقاومة التطبيع والقضايا القومية في نقابة المهندسين الأردنيين واللجنة التنفيذية العليا لمجابهة التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ.

الآداب- سماح إدريس

 

آخر الأخبار