إنّها لمأساةٌ حقًّا أن تنجح حركةُ مقاطعة إسرائيل (BDS) في تحقيق إنجازاتٍ على الصعيد العالميّ، تَمثّل أبرزُها في إعلان مؤسّسات وشخصيّات ثقافيّة وفنّيّة من مختلف أنحاء العالم تبنّيَهم للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة للكيان الصهيونيّ،[1] بينما تواجه الحركةُ على الصعيدين الفلسطينيّ والعربيّ اتهاماتٍ ومحاولاتِ تشويهٍ تهدف إلى تحويل الأنظار عن الموضوع الأساس، وهو التطبيع، وإلى تصوير الأمر وكأنّه “وصايةٌ” تمارسها الحركة ضدّ “أفرادٍ” ومؤسّسات.
حقيقة الأمر أنّ الحركة أتت نتيجةً لنضالٍ جماهيريّ قديم ومستمرّ ضدّ التطبيع بأشكاله كافّةً، ونشأتْ من رحِم الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة، ومن ثقافة المقاومة العربيّة ضدّ الكيان الصهيونيّ والتطبيع معه.
عندما كنتُ طالبةً في جامعة بيرزيت في النصف الثاني من عقد التسعينيّات، شاركتُ في حملات عديدة ضدّ مظاهر تطبيعيّة، أذكرُ من بينها قيامَ طلبة الجامعة ــــ وانضمّ إلينا شبّانٌ من مدينة رام الله وقراها ومخيّماتها ــــ بمنع عرض فيلم لمُخرجٍ إسرائيليّ في إحدى دُور العرض في رام الله. كان الفيلم، بحسبِ ما أذكر، عن الهولوكست [المحرقة النازيّة]. وقفنا على باب قاعة العرض ومنعنا الجمهورَ من الدخول، مُوضحين وجهةَ نظرنا. اتّخذنا قرارَ المنع ونفّذناه من دون أخذ أيّة أوامر من أيّ حزب.
بدأتْ هذه الظواهرُ التطبيعيّة في مرحلة ما بعد أوسلو (1993)، إذ فُتح البابُ أمام مختلف أشكال التطبيع، على مستوى الثقافة والمبادراتِ الشبابيّة والنسويّة وغيرها. وبعد أكثر من عشر سنوات على محاربة التطبيع جماهيريًّا ومن دون أيّة أُطر، صدر في 9 تموز/ يوليو عام 2005 النداءُ الفلسطينيُّ التاريخيّ “لمقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارت منها وفرضِ العقوبات عليها” (BDS)، وشارك في إطلاقه أكثرُ من 170 جسمًا من اتّحادات ولجان شعبيّة ونقابات وأحزاب ومؤسّسات أهليّة فلسطينيّة.[2]
انعقد المؤتمرُ الوطنيّ الأوّل لحركة المقاطعة سنة 2007، وشارك فيه ممثّلو جميع القوى السياسيّة والأطر النقابيّة والاتحادات الشعبيّة، وممثّلو شبكات المنظّمات الأهليّة، وغيرهم. ولكنّ “ثقافة المقاطعة” بدأتْ قبل ذلك بكثير؛ فالانتفاضة الأولى (نهاية العام 1987)، على سبيل المثال، رفعتْ شعارَ الحرب الاقتصاديّة، عبر مقاطعة البضائع الإسرائيليّة، كحربٍ مكمِّلةٍ للحرب الشعبيّة، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتيّ، في وصفه أحدَ أهمّ عوامل استمرار الانتفاضة.
من الممكن أن نختلفَ مع حركة المقاطعة في العديد من الأمور. لكنْ من الغريب أن يستمرّ الاختلافُ على أسسٍيُفترض أن نكون متّفقين عليها، خصوصًا أنّ الشعب الفلسطينيّ ما زال يعيش تحت الاحتلال، ولم تتغيّر الظروفُ إلى الأفضل؛ على العكس تمامًا: كلُّ الظروف المحيطة بالشعب الفلسطينيّ وبقضيّته ذاهبةٌ إلى الأسوأ. فعلى أيّ أساس تتمّ إعادةُ النظر في معايير المقاطعة وفي تعريف التطبيع؟ إذا كان من الضروريّ إعادةُ النظر هذه، فمن أجل رفع سقف المعايير المتبنّاة، لا لخفضها أوتعويمها.
يستمرّ القائمون على مشاريع التطبيع الثقافيّ، والمدافعون عنها، بإثارة الأسئلة ذاتها كلّما جرت الدعوةُ إلى مقاطعة نشاطٍ أو منتَج ثقافيّ يندرج تحت التطبيع: “ما هو التطبيع؟” و”ما معايير المقاطعة؟” النقاش مشروعٌ وصحّيّ، غير أنّ ما يحصل غالبًا هو إرجاعُه إلى نقطة الصفر، بحيث لا يَخلق تراكمًا في التعامل مع مشاريع التطبيع وفي تعزيز ثقافة المقاطعة. ولهذا الهدف يأتي هذا المقالُ ليَطرح قضيّةَ “التطبيع الثقافيّ” على شكل أسئلة وأجوبة ــ ــ مع الأخذ في الاعتبار أنّ ما سيأتي لا ينطبق على الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 1948، نظرًا إلى خصوصيّة أوضاعهم، وهو ما يتوجّب طرحُه للنقاش أيضًا، عبر جلساتٍ وندواتٍ ومقالاتٍ وغير ذلك، من نمطِ ما فعلته مجلةُ الآداب قبل شهور قليلة.[3]
1) ما هو التطبيع الثقافيّ؟
يندرج مصطلحُ “التطبيع الثقافيّ” تحت مصطلح التطبيع عامّةً، ويَرِد على الموقع الإلكترونيّ لحركة المقاطعة:
“ينطبق التعريفُ الآتي للتطبيع على الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة (بما فيها القدسُ الشرقيّة) وقطاع غزّة، إضافةً إلى العرب والفلسطينيين في الوطن العربيّ. التطبيع هو المشاركة في أيّ مشروعٍ أو مبادرةٍ أو نشاط، محلّيٍّ أو دوليّ، مصمّمٍ خصّيصًا للجمع (سواء بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة) بين فلسطينيين (و/ أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أو مؤسّسات)، ولا يهدف صراحةً إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكلِّ أشكال التمييز والاضطهاد الممارَس على الشعب الفلسطينيّ. وأهمُّ أشكال التطبيع هو تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلميّ أو الفنّيّ أو المهنيّ أو النسْويّ أو الشبابيّ، أو إلى إزالة الحواجز النفسيّة.”
ويرِد على موقع الحركة بعضُ المجالات والأنشطة التي ينطبق عليها هذا التعريف.[4]
يرتبط التطبيع الثقافيّ بالثقافة، ويتّسع بالتالي لكلِّ ما ينطوي عليه مصطلحُ الثقافة من أشكالٍ وممارسات (مسرح، سينما، فنّ، أدب، ثقافة شعبيّة…). وأرى أنّه يَشمل:
1) المشاركةَ في نشاطاتٍ ثقافيّة تهدف إلى الجمع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بين فلسطينيين (و/ أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أو مؤسّسات).[5]
2) كلَّ نشاطٍ أو عمل ثقافيّ يحصل على تمويل من مؤسّسات إسرائيليّة لإنتاجه أو تنفيذه أو الترويج له.
3) المشاركةَ في عمل أو نشاط ثقافيّ يتضمّن انحيازًا واضحًا إلى المستعمِر، أو يروِّج لروايته في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، أو يساوي بين المستعمِر والمستعمَر، أو يساوي بينهما في المسؤوليّة عمّا يحصل في فلسطين التاريخيّة، أو يسعى إلى إزالة الحواجز النفسيّة بينهما. وهذا يعني أنّ محتوى النشاط أو العمل الثقافيّ قد يكون تطبيعًا ثقافيًّا وإنْ لم يضمّ طاقمُ إنتاجه أو تنفيذِه إسرائيليين ولم يحصلْ على تمويلٍ إسرائيليّ.
4) المشاركةَ في نشاطاتِ مؤسّسةٍ أو جهةٍ تعمل على الترويج لـِ”التعايش” بين المستعمِر والمستعمَر وتساوي بينهما. المفترض هنا ليس تفعيلَ المقاطعة الثقافيّة للكيان الصهيونيّ فحسب، بل تفعيلَها أيضًا تجاه كلّ من يتّخذ من التطبيع نهجًا وهدفًا.
5) وقد لا يكون المنتَجُ الثقافيّ تطبيعيًّا من ناحية المحتوى أو الطاقم أو التمويل، ولكنه جزءٌ من سلسلة أعمالٍ تُخَلْخِل، لصالح المستعمِر، أساسًا مهمًّا من أسس القضيّة الفلسطينيّة، وهو عدالتُها. وعلى سبيل المثال، فإنّ معاييرَ التطبيع لا تنطبق بشكل مباشر على فيلم “قضيّة 23” للمخرج زياد دويري، ولكنّه يأتي ضمن مشروع دويري التطبيعيّ والمعلَن، لذا وجبت الدعوةُ إلى مقاطعة مجمَل مشروع دويري. والحقيقة أنّ فيلم “قضيّة 23” استكمالٌ لفيلم “الصدمة” الذي صُوِّر جزئيًّا في تل أبيب بمشاركةٍ إسرائيليّة، أي استكمالٌ لمشروع دويري في النيل من عدالة القضيّة الفلسطينيّة، وفي تمييع صورة الفلسطينيّ كضحيّة، بوضعه في قفص الاتهام، وبتصويره “عنيفًا” و”إرهابيًّا.” ويؤكّد دويري أهدافَ مشروعه من خلال إعلانه مؤخّرًا نيّتَه العملَ ضدّ حركة المقاطعة: “أريد أن أصوّر أشخاصًا مثل أولئك في الـ BDS بصورة سلبيّة للغاية.. أعتقدُ أنّني أحمل أجندةً ضدّهم، وأظنّني سأفعل ذلك في فيلمي القادم.”[6]
2) هل أنتِ مع الدعوة إلى مقاطعة كلّ أعمال الفاعل الثقافيّ ونشاطاته ما دام يواصل التطبيعَ أو يروِّج له، ولو لم تنطبقْ معاييرُ المقاطعة على أحد أعماله أو نشاطاته؟
نعم، بل أرى ذلك ضروريًّا. ذلك أنّ مَن يمارس عمليّةَ التطبيع ولا يتراجع عنها، بل يعلن أنّه مستمرّ فيها، يضع نفسَه على الجهة النقيض من المقاطعة كسلاحٍ ضروريّ يَحفظ الذاتَ الجمعيّة والهويّةَ والقضيّةَ الفلسطينيّة.
ثم إنّه يستحيل عدمُ ملاحظة “خيطٍ” يصل بين سلسلة أعمال المثقّف أو الفنّان، إذ هو يملك وجهاتِ نظرٍ تجاه القضايا المحيطة به لا بدّ من أن تنعكس جزئيًّا أو كلّيًّا في مجمل أعماله.
3) الإبداع مفتوح على تأويلاتٍ متعدّدة. فكيف يمكن الجزمُ أنّ عملًا إبداعيًّا ما ينحاز فعلًا إلى المستعمِر وروايتِه، أو يساوي بين المستعمِر والمستعمَر، أو يجمِّل وجهَ الاستعمار؟
يؤخذ العملُ الإبداعيّ بشموليّته، وبتفاصيله، وبأدوار الفاعلين الرئيسين فيه، وبرسائله الموجَّهة إلى المتلقّي، وبالصور المعرفيّة التي يعزِّزها في الوعي الجمعيّ. ومهما أغرقَ في الرمزيّة، فإنّه يبقى متضَمِّنًا رسائلَ وصورًا معرفيّةً يُراد تعزيزُها في ذلك الوعي، خصوصًا حين نتحدّث عن أعمالٍ تُسْتَلْهم مَحاورُها من واقع قضيّةٍ تواجِه حالةً استعماريّة، كما هو حال الأعمال الثقافيّة التطبيعيّة.
في الأعمال التطبيعيّة، لا يمكن فصلُ السياسيّ عن الثقافيّ والإبداعيّ. وما دام منتِجُ العمل استلهم موضوعَه من قضيّةٍ سياسيّة، فإنّ عملَه يَفرض على المتلقّي حتميّةَ الربط بين السياسة والثقافة، وإنْ دافع المنتِجُ بقوله عكس ذلك، أيْ بقوله بوجوب الفصل بينهما عند تلقّي العمل.
والحقّ أنّ مسألة “التأويلات المتعدّدة” يمكن أن تؤخذ مدخلًا لتمرير المشاريع التطبيعيّة، أو حجّةً لتبريرها أو نفي صفة التطبيع عنها ــ ــ وهذا ما يحدث على أرض الواقع. ومن خبرة الفلسطينيين والعرب في التعامل مع المشاريع الثقافيّة التطبيعيّة، فإنّ غالبيّتها تصبّ، بشكلٍ عامّ، في المحاور الآتية أو في بعضها: الاعتراف بالمستعمِر من خلال المشاركة معه في المشروع، والمساواة بين المستعمِر والمستعمَر ووضعهما في صورةٍ “إنسانيّة” واحدة، وتمييع صورة الفلسطينيّ كضحيّةٍ للاستعمار مقابلَ تمييع صورة الإسرائيليّ كمستعمِر.
4) لماذا تُعتبر المقاطعة سلاحًا فعّالًا؟ ولماذا يضرّ التطبيعُ بالفلسطينيين وقضيّتِهم؟ ولماذا يُعتبر مدخلًا إلى تزييف الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ والعربيّ والعالميّإزاء القضيّة الفلسطينيّة؟
يمتلك الكيانُ الصهيونيّ أدواتِ السيطرة الاقتصاديّة والعسكريّة في فلسطين التاريخيّة. وهو يمتلك أيضًا ما يمكّنه بسهولةٍ من نشر روايته، وتحسينِ صورته، والترويجِ لدولته كدولة “طبيعيّة،” عبر بروباغاندا إعلاميّة وثقافيّة ممنهجة ــ ــ[7] والأقوى بطبيعة الحال هو الأقدرُ على فرض شروطه. في ما يأتي مَحاورُ أساسيّةٌ تستند إليها المقاطعةُ في وصفها ثقافةَ مقاومة:
ـــ لا يمكن الترويجُ لـِ”التعايش” بين الضحيّة والجلّاد، بين المستعمَر والمستعمِر، ما دام الأخيرُ يمارس فعلَ السيطرة بالقوّة. ففي خضمّ عمليّة التفاعل الثقافيّ، يَفرض الأقوى شروطَه، ويقود عمليّةَ تزييف الوعي وطمسِ تاريخ المستعمَر وثقافتِه، ويصبح من ثمّ قادرًا على سلبه هويّتَه، فيحصل لدى الطرف المسيطَر عليه “تفكّكٌ داخليّ” وانهيارٌ قِيَميّ ــــ وطنيّ. وبالتالي، فإنّ التعايش والتصالحَ مع المستعمِر يعنيان ذوبانَ المستعمَر، هويّةً وقضيّةً، في المنظومة الاستعماريّة.
ـــ كلُّ عملٍ يساوي بين المستعمِر والمستعمَر منافٍ للواقع، ويصبّ في مصلحة المستعمِر. ذلك أنّه يستغلّ الصورةَ المُساوِيةَ هذه لتجميل صورته، ولترويجِ ذاته دولةً “طبيعيّةً،” لا كيانًا استعماريًّا.
ـــ العمل المشترك بين المستعمِر والمستعمَر يعني إزالةَ الحواجز النفسيّة بينهما. وهذا لا يعني اعترافَ المستعمَر ضمنيًّا بالمستعمِر فحسب، بل نفيَ الصفة الاستعماريّة عنه أيضًا.
ـــ إنّ مبادرة “النخَب” المستعمَرة إلى إزالة الحواجز النفسيّة مع المستعمِر تَفتح البابَ أمام الجميع للسير على دربها. لذا لا مبالغة في القول إنّ التطبيع الثقافيّ هو أخطرُ مجالات التطبيع؛ فإذا كانت “النخَب” المثقّفة حارسةَ الوعي والقضيّة والهويّة، فقد تكون أيضًا المدخلَ الأخطرَ لتزييفالوعي وتمييع القضيّة والهويّة.
إذًا، المقاطعة ثقافةُ مقاومة تُشكّل، أوّلًا، درعَ حمايةٍ داخليّةٍ للوعي الجمعيّ العربيّ، وللذات الجمعيّة الفلسطينيّة، من التفكّك والانصهار داخل المنظومة الاستعماريّة. وتشكّل، ثانيًا، سلاحًا ضدّ الكيان الاستعماريّ من أجل محاصرته، وللاستمرار في نفي “الطبيعيّة” عنه.
5) فلنفرضْ أنّ عملًا ما لا يروِّج للرواية الصهيونيّة، ولا يساوي بين الطرفين، ولكنّه مشترك بين إسرائيليين (أفراد) وفلسطينيين. فهل يُعتبر ذلك تطبيعًا؟
نعم. فمجرّدُ التقاء الطرفيْن في عملٍ ثقافيّ، بما يعنيه من إزالة الحواجز النفسيّة بينهما، هو اعترافٌ بالمستعمِر، ودعوةٌ غيرُ مباشرة لبقيّة الفنّانين والمثقّفين كي يسيروا على الدرب ذاته. ويَصعب أن تجد عملًا فنّيًّا مشتركًا لا يساوي بين المستعمِر والمستعمَر؛ فالجمع في حدّ ذاته لا يكون عبثيًّا.
يَحْضر هنا، مثالًا، فيلمُ “التقارير حول سارة وسليم” للمُخرج الفلسطينيّ مؤيّد عليان. فقد زعمتْ شركةُ Palcine Productions، وهي المنتِجُ الرئيسُ للفيلم، في بيانها[8] الذي جاء ردًّا على بيان حركة المقاطعة،[9] أنّ اختيارَ الشخصيّات تمّ على “أسسٍ فنّيّة ومهنيّة بحتة.” غير أنّ بيانَ الشركة لم يَذكرْ صراحةً وجودَ ممثليْن إسرائيلييْن يؤدّيان دوريْ بطولةٍ فيه، أحدُهما مجنّدٌ سابق في جيش الاحتلال. كما أنّه لم يوضح “الأسسَ المهنيّة” التي تقتضي إشراكَهما؛ فإذا كان المطلوبُ ممثّلين يتحدّثون العبريّةَ بطلاقة، فهناك الكثيرُ من الفلسطينيين الذين يجيدونها. هذا ناهيكم بأنّ قصّة الفيلم تساوي بين الضحيّة والجلّاد، وتؤنسن الضابطَ الإسرائيليّ وتطالب الجمهورَ بالتعاطف معه.[10]
تجدر الإشارةُ هنا إلى أنّ هناك سياسةً إعلاميّةً تتبع نهجَ “الفَلْتَرة المعلوماتيّة” لترويج المشاريع التطبيعيّة للجمهور العربيّ. وتتمّ الفلترة عبر التركيز على “إنجازات” هذه المشاريع، كالحصول على الجوائر، وإخفاءِ أيّة معلوماتٍ أخرى تشير إلى التطبيع وتثير حساسيّة الجمهور العربيّ وغضبَه. هذه السياسة الإعلاميّة، التي يساهم فيها منتِجو تلك المشاريع، فضلًا عن صحفٍ ومواقعَ إخباريّةٍ عربيّة،[11] تقوم بتمرير ما يُحبّ الجمهورُ العربيُّ سماعَه عن المنتج الثقافيّ، غير أنّها في الوقت ذاته تقوم بإخفاءِ تطبيعيّته ــ ــ وهذا تضليلٌ واضحٌ للجمهور. في الهامش أدناه، أضع في متناول القارئ أربعةَ روابط إخباريّة حول فيلم “التقارير حول سارة وسليم،” من أربعة مواقع إعلاميّة عربيّة معروفة: ثلاثة منها تذكر أسماءَ الممثلين الرئيسين في الفيلم من دون ذكر أسماء الممثليْن الإسرائيلييْن (اللذين يؤدّيان فيه أدوارًا رئيسةً كذلك)، ولا يشير أيُّ منها إلى أنّ قصّة الفيلم الرئيسة تتمحور حول علاقة حميميّة بين فلسطينيّ وإسرائيليّة![12]
6) ماذا لو كان الإسرائيليون المشاركون في نشاطِ ما مؤيّدين لحقوق الشعب الفلسطينيّ؟
تستثني أدبيّاتُ حركة المقاطعة من تعريف التطبيع (الوارد ذكرُه في معرض الإجابة على السؤال الأول) شرطيْن: 1) أن يَعترف الطرفُ الإسرائيليّ “بالحقوق الأساسيّة للشعب الفلسطينيّ” بموجب “القانون الدوليّ.” 2) أن يكون النشاط شكلًا من أشكال “النضال المشترك” ضدّ نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطانيّ.
ولكنْ على حركة المقاطعة أن تجيب على السؤال الآتي: ماذا لو أيّد إسرائيليٌّ فاعلٌ في المجال الثقافيّ “الحقوقَ الأساسيّةَ للشعب الفلسطينيّ” ولكنّه يشارك في نشاطاتٍ تصبّ تمامًا في مصلحة الاستعمار؟ بل قد تؤخذ هذه النقطةُ للالتفاف على المقاطعة، بمعنى أنّه قد يصبح بالإمكان الاشتراكُ مع فاعلٍ ثقافيّ إسرائيليّ في عملٍ ثقافيّ ما شرطَ أن يكتفي بـ”إعلان” تأييده للحقوق الفلسطينيّة!
أرى أنّ “إعلان” الإسرائيليّ تأييدَه “الحقوقَ الأساسيّةَ للشعب الفلسطينيّ” لا يكفي، وإنّما ينبغي أن يُنظر أيضًا إلى نشاطه على الأرض. فهل إعلانُه مدعومٌ حقًا بنضالٍ ونشاطٍ ثقافيّ واضح يدعم حقوقَ الفلسطينيين؟
من الواجب وضعُ شروط أوضح حول هويّة الإسرائيليّ الذي يشارك الفنّانَ أو المثقفَ الفلسطينيَّ في عملٍ ثقافيٍّ ما، بحيث لا يُعتبر العملُ ووجودُهما معا تطبيعًا. ووجهةُ نظري هي أنّ أيّ عملٍ ثقافيّ مشترك بين فلسطينيين وإسرائيليين هو تطبيع: 1) لأنّه غيرُ اضطراريّ (وسأفصّل درجةَ الاضطرار لاحقًا). 2) ولأنّه يعمل على إزالة الحواجز النفسيّة. وقد تُستثنى من ذلك حالاتٌ نادرة، من أفرادٍ وجماعاتٍ إسرائيليّة، لا تعترف بـ”إسرائيل،” وتعارض الصهيونيّة، وتشارك في النضال ضدّهما.
ثمّ إنّ المقاطعة ليست عقابًا موجَّهًا ضدّ فردٍ إسرائيليٍّ بعينه، بل هي ثقافةُ مقاومةٍ جمعيّة موجَّهة ضدّ كيانٍ استعماريّ، ومن ثمّ ضدّ مَن ينتمي إليه.
7) ألا تتعارض الدعوةُ إلى مقاطعة أعمال فنّيّة وأدبيّة مع حريّة التعبير؟
هذا سؤالٌ ابتدعه، أساسًا، المدافعون عن التطبيع من أجل الالتفاف على المقاطعة، وتصويرِها وكأنّها تمارس الرقابةَ والوصايةَ على الأعمال الثقافيّة. لا تتعارض المقاطعةُ مع حريّة التعبير ولا تؤثّر فيها. فحركة المقاطعة لا تتعرّض، على سبيل المثال، لأعمالٍ ثقافيّةٍ تنتقد محرَّماتٍ داخليّةً في المجتمع، أو لأعمالٍ تتناول مواضيعَ مجتمعيّةً داخليّةً حسّاسة. المقاطعة تتدخّل كسلاح مقاومة حين يروَّج لعملٍتنطبق عليه معاييرُ التطبيع.
باسم “حريّة التعبير،” إذًا، يمْكن كاتبًا أو مثقفًا فلسطينيًّا أو عربيًّا أن يروِّج للرواية الصهيونيّة؛ وهذا ما نشهده فعلًا من وقت إلى آخر.[13] عندما يتعلّق الأمرُ بالحفاظ على قيمٍ وأسلحةٍ ثقافيّةٍ وطنيّةٍ أساسيّة، وعلى الذات والهويّة، في مواجهةِ سلب الحقوق ونفي الوجود، فإنّ حريّة التعبير لاتكون أولويّةً، ولا تكون المعيارَ الصالحَ للقياس، بل الأولويّةُ هي لمقاومة الاستعمار والتطبيعِ معه.
8) ماذا عن العمّال الفلسطينيين في “إسرائيل،” وعن تلقّي الفلسطينيين العلاجَ في المستشفيات الإسرائيليّة؟
درجةُ الاضطرار هي العاملُ الحاكمُ في تعريف التطبيع؛ أو فلنقلْ إنّ هناك تطبيعًا اضطراريًّا وتطبيعًا غيرَ اضطراريّ. لقد ساهم الكيانُ الصهيونيّ، بسيطرته على موارد الشعب الفلسطينيّ، في تراجع أوضاع الفلسطينيين الاقتصاديّة، الأمرُ الذي دَفع العمّالَ إلى البحث عن الرزق في الأراضي المحتلّة عام 1948، وهو ما يمكن اعتبارُه “تطبيعًا اضطراريًّا.” وينطبق الأمرُ عينُه على تلقّي الفلسطينيّ علاجًا ضروريًّا، أو على إجراء عمليّة جراحيّة عاجلة أو ضروريّة، في المستشفيات الإسرائيليّة.
على صعيد المنتَج الثقافيّ، فإنّ الفلسطينيين ليسوا مضطرّين على الإطلاق إلى التعامل مع الكيان الاستعماريّ لإنتاج أعمالٍ ثقافيّة، بل حقّقت الثقافةُ الفلسطينيّةُ حضورًا عالميًّا من دون الاعتماد على الكيان الاستعماريّ ومن دون “التعاون” مع أفراده أو مؤسّساته.
9) يشارك في المشاريع التي تندرج تحت التطبيع فنّانون لا يمكن التشكيكُ في وطنيّتهم. وتُتَّهم حركةُ المقاطعة، والنشطاءُ والمثقّفون المعارضون لهذه المشاريع، بالتشهير بهؤلاء الفنّانين. فما العمل؟
في هذه الحالة على الفنّانين أن يعتذروا وأن يتبرّأوا من العمل إذا كانوا مشاركين فيه، أو أن يسحبوه إذا كانوا أصحابَه ومنتجيه الأساسيين، أو أن يتعهّدوا ــــ على أقلّ تقدير ــــ بعدم تكرار أعمال مماثلة. ولن يفيدَهم القولُ إنّ العمل ليس تطبيعًا، إذ إنّ تعريفَ التطبيع لا يَخضع لأهواء فردٍ، بل لمعايير لجانٍ تعمل على تطوير فهمها للتطبيع والمقاطعة منذ سنوات. ولا يتعلّق الأمرُ بشخص الفاعل بقدرِ ما يتعلّق بالفعل نفسِه؛ إذ يُتّخذ الموقفُ بناءً على العمل ورسائله، وعلى وجود إسرائيليين فيه. والفنّانون، والأشخاصُ عامةً، جميعُهم عرضةٌ للاستدراج أو التضليل أو تقديم التنازلات؛ بل هم عرضةٌ أيضًا لتغيير وجهات نظرهم تجاه القضيّة الفلسطينيّة والكيان الاستعماريّ، مثلًا،قد يتوقّف بعضُهم عن اعتبار الأولى “أولويّةً” وعن اعتبار الثاني عدوًّا.
لا يمكن التضحيةُ بسلاح المقاطعة من أجل شخص، أيًّا كان. بل على الأفراد التخلّي عن أعمالهم التطبيعيّة في سبيلِ أن يبقى هذا السلاحُ فعّالًا. ومع ذلك، فإنّ لهم مطلقَ الحريّة أن لا يتخلّوْا عنها، وأن يستمرّوا في ما يفعلون. ولكنّ عليهم في هذه الحالة ألّا يَتّهموا حركةَ المقاطعة والناشطين ضدّ التطبيع بالتشهير بهم، بل عليهم أن يتفهّموا أنّ عملَ هؤلاء يندرج، هو أيضًا، تحت “حريّة التعبير” التي يدافعون باسمها عن أعمالهم التطبيعيّة.
10) أتدْعون إلى مقاطعة المشاريع والأعمال الثقافيّة التطبيعيّة، أمْ إلى منعها؟
لا أحد، بمن في ذلك حركةُ المقاطعة، يَملك أن يمنع عرضَ الأعمال الثقافيّة والفنيّة. حركةُ المقاطعة، والناشطون ضدّ التطبيع، يدعون الأفرادَ والمؤسّسات إلى مقاطعة تلك الأعمال بناءً على معاييرَ متّفقٍ عليها. أما المنع فهو، في الأساس، قرارُ مؤسّساتٍ، حكوميّةٍ وغير حكوميّة. وقد يُنفّذ فعلُ المنع باحتجاجٍ شعبيّ، أيْ على يد الجماهير.
غير أنّني أرى من الضروريّ التعاونَ مع المؤسّسات التي تستهدف الأجيالَ الناشئة، كالمدارس والجامعات والأندية، بهدف الحؤول دون عرض أفلام تطبيعيّة وترويجِ أيّ أعمال ثقافيّة أخرى تندرج تحت التطبيع. ذلك لأنّه من حقّ الشعب الفلسطينيّ، والشعوبِ العربيّة، ومن واجبِ مؤسّساتها، ضمان تنشئة أجيال غير مزيّفٍ وعيُها، وغيرِ متصالحةٍ مع الكيان والواقع الاستعمارييْن.
11) لنفرضْ أنّكِ أردتِ الكتابة عن عملٍ تطبيعيّ ما، لأهدافٍ بحثيّةٍ أو نقديّة، أفلا يتعارض ذلك مع دعوتكِ إلى مقاطعتها؟
لا تتعارض الدعوةُ إلى مقاطعة أعمال ثقافيّة تطبيعيّة مع مشاهدتها (إذا كانت أفلامًا) أو قراءتها (إذا كانت كتبًا)، بهدف الكتابة عنها وتحليلها، وسأستمرّ في دعوتي إلى مقاطعتها ولو شاهدتُها أو قرأتُها. بل إنّه من الضروريّ أن يكتب النقّادُ والكتّابُ عن الأعمال الثقافيّة التطبيعيّة من باب التعمّق في دراستها وتحليلها.
بالنسبة إلى المتلقّي الذي سيشتري روايةً سمِع أنّها تطبيعيّة، أو سيذهب إلى قاعة عرضٍ لمشاهدة فيلم قرأ أنّه تطبيعيّ، فإنّ فعل التلقّي هنا ليس اضطراريًّا؛ ذلك لأنّه يتعامل مع “سلعةٍ” سيدفع مقابلها ثمنًا، وهو ليس مضطرًّا إلى أن يشتريها.
قد يقول قائل: “سمعتُ أنّ هذا الفيلم تطبيعيّ ولكنّني أحتاج إلى أن أشاهدَه كي أتيقّن من الأمر. لا أريد أن أكتب عنه لأنّني لستُ كاتبًا، ولكنّني لست واثقًا بما يقال عنه، ولا أصدّق أنّ المخرج مطبِّع.” وردّي أنّ الفرد هو مَن يحدِّد درجةَ اضطراره إلى العمل الثقافيّ التطبيعيّ: فإمّا أن يقاطعَه بعد أن عرف موقفَ حركة المقاطعة ووجهاتِ نظر النقّاد والكتّاب والناشطين؛ وإمّا أن يتلقّاه، وله مطلقُ الحريّة في تبنّي أيّة وجهة نظرٍ يريدها، غير أنّه من الضروريّ ترسيخ مبدأ عدم التعامل مع المنتج الثقافيّ التطبيعيّ على أنّه شبيه بأيّ سلعة ثقافيّة أخرى معروضة في السوق.
يُقرأ فعلُ “الدعوة إلى المقاطعة” في وصفه إعلامًا للجمهور بهويّة المنتَج التطبيعيّ، ومطالبةً بمقاطعته. ولكنّ “تنفيذَ فعل المقاطعة” قرارُ المؤسّسة، وقرارُ الفرد أيضًا؛ علمًا أنّ الفرد قد يجد طريقةً لمشاهدة المنتَج الممنوع (فإذا كان فيلمًا فقد يقرصنُه)، ولن يتدخّل أحدٌ في حقّه في مشاهدته. المطلوب هو عدمُ التصالح مع عرض المنتَج الثقافيّ التطبيعيّ (كأنّه مثلُ أيّ منتَج ثقافيّ آخر) في دُور العرض والمؤسّسات والسوق في فلسطين والوطن العربيّ.
هكذا أكون متصالحةً تمامًا مع نفسي حين أبحث عن طريقةٍ ما لمشاهدة فيلمٍ تطبيعيّ بهدف الكتابة عنه وتحليله، ولن أكون في الوقت ذاته متصالحةً مع مشاهدتي له (أو مشاهدة الجمهور له) في قاعة عرض عامّةٍ في رام الله أو القدس أو القاهرة أو بيروت أو حتى باريس.[14]
***
وأخيرًا، فإنّ ما سبق هو محاولةٌ للتقدّم في النقاش، ولتوضيح بعض النقاط الملتبسة على الجمهور الفلسطينيّ والعربيّ. وقد بُني على معاييرَ متَّفقٍ عليها طوال مسيرة النضال الفلسطينيّ والعربيّ ضدّ التطبيع. وبطبيعة الحال يبقى ما كتبتُه واقترحتُه مفتوحًا للنقاش.
مليحة مسلماني
القدس (فلسطين)
الآداب- 17/02/2018